معنى جديد للعزلة
ربما يكون خيار العزلة من أصعب الخيارات في الزمن المتحوّل الذي نعيش. لا يمكنك أن تكون معزولا وأنت في وسط الحياة. ستكون عزلتك مخادعة. مثلا، كيف لك أن تنعزل إذا كان برفقتك هاتفك، وهو ما لا يمكن الاستغناء عنه، حيث إن شبكة الحياة مرتبطة به وبأدقّ التفاصيل. كما لا يمكنك الاستغناء عن ملابسك، فقد أصبح الهاتف الخلوي جزءا عضويا من تفكيرنا، ولم لا، جزءا من أعضائنا الحيوية. هو من يزوّدنا بما نرغب وبما لا نرغب. مفروض عليك، شئت أم أبيت، حتى في حدوده الدنيا، وهو مفصول عن الإنترنت، فلا بد من وفود طارق يسأل عنك من خلاله، وربما في اليوم الواحد أكثرمن مرّة. لذلك لا مهرب من تفاعلات الكون. ومن يفعل ذلك اختيارا سيدخل نفسه في صراعٍ ربما هو في غنىً عنه. إذن، لا بد من ترويض هذه العلاقة مع العالم، وليس صدّها نهائيا.
أصبحت للعزلة بذلك مدلولات جديدة، ضمنها الوجود في قلب العالم والأحداث، وأيضا التفاعل معها. فإذا كنت تمتلك مشاعر لابد لك من التفاعل بأي شكل مع واحدة على الأقل من صور آلاف الأطفال الذين يبادون في قطاع عزّة وبوحشية، حين تدوس القنابل على رؤوسهم الصغيرة الغفلى. أسقفٌ تنطبق على أجسادهم البضّة لتوقف قلوبهم البريئة عن الخفقان إلى الأبد.
أتذكّر شابا من قرية عُمانية ألمّ به ضيم من أحد أقاربه، لم يترك البلاد ويهرُب، ولم ينهزم إلى ذاته وآلامه ويضحّي بصحته، ويدخل في طرق الإدمان السوداء، إنما اختار أن يلتجئ إلى حضن الطبيعة الأم، فعاش سنواتٍ بين الجبال، بدل أن يعيش بين الحفر. واستطاع في عزلته أن يُنتج صورا فوتوغرافية وفيديوهات جميلة عن الطيور والحشرات وأنواع الحجارة والينابيع، بل اكتشف أماكن جديدة، وتحرّر من أسوار اجتماعية كانت تكبّله، وصار ينتقل بملابس خفيفة بين الصخور، رغم تلك العزلة الاختيارية التي دفعه الظلم الاجتماعي إليها، إلا أنه كان مخترقا بالميديا، ولكنه حوّلها إلى وسيلة منتجة. وبدل أن يكون مهمّشا منبوذا، صار، مع الوقت، معروفا، بدليل أن كاتب هذه السطور يتذكّره في هذه اللحظات. ولأنه هارب بلا عمل، استطاع أن يصنع مهنة تدرّ له المال، انطلاقا من هذه العزلة، حيث صار يأتي، مرّة في الأسبوع، إلى سوق قريته ويبيع ما اكتشفه في عزلته من عسل نحلٍ صاف، وصنع عصيا تقليدية من أشجار "العتم" المنتشرة في أعالي الجبال.
أخذ سؤال العزلة الذي ينشُدُه معظم البشر في وقتنا الحالي، بسبب ضغوط الحياة وعنفها وتسارعها أشكالا جديدة، وأحيانا لا علاقة ظاهرة لها بالعزلة بمعناها التقليدي، خصوصا حين تكون سببا في لك الجمهور والمتابعين. بل أحيانا تجلب أعداء غير متوقّعين.
في الفيلم الأميركي "موسم القتل"، من إخراج مارك جونسون وأداء جون ترافولتا وروبرت دينيرو، يختار رجلٌ كهلٌ الاعتزال في الغابة، وإيجاد حياة فيها عبر شراء كوخ، نسج مع الوقت تفاصيل حياة جديدة، وصار يستمتع بعزلته مجزّئا يومه بين المشي والصيد البرّي. وكان لا يزور المدينة إلا حين ينتهي منه الدواء وبعض ملتزمات الطبخ الضرورية. ولأنه جندي أميركي سابق، حارب مع الجيش في صربيا، ظهر له من بين أشجار الغابة من يطلب قتله انتقاما، ليدور بينهما عراكٌ طويل، ومواقف دامية كان الرجل المعتزل في غنىً عنها، لولا ماضيه في الجندية.
تفيد "العزلة الجماعية"، إن صحّ التعبير، في ترويض الفوضى التي تحيطنا، أو بمعنى من المعاني تهذيبها، فحين تكون وسط الجموع ربما تستطيع أن تنتشل نفسك، ولكن من دون أن تفرط في إقصائها عن فضائها العمومي التفاعلي. وكما أن لنفسك عليك حقّا، حسب المقولة المعروفة، فإن لكثيرين من حولك عليك حقّا أيضا. وبعد ذلك، حتى وإن اخترتَ العزلة التقليدية بعيدا عن العالم، فإن هذا العالم لا بد ملاحقك، وإنْ بأشكال جديدة لا يمكنك التكهّن بها أو توقّعها، كما في المثالين السابقين: الواقعي والسينمائي.
مشاركة الخبر: معنى جديد للعزلة على وسائل التواصل من نيوز فور مي