فيلم صغير يكفي
تساءلتُ في مقالة الأسبوع الماضي عن الأسباب التي حالت دون تشكّل سينما فلسطينية واضحة الهوية أو البصمة، كما أمكن للسينما الإيرانية مثلا أن تفعل، برغم المضايقات والعسف والتقشّف التي سادت إثر نجاح الثورة الخمينية، وخصوصا أن مخرجين فلسطينيين عديدين أثبتوا تفرّدهم وتمايزهم وموهبتهم في التعاطي مع القضية. لكن هذا أمرٌ وذاك أمر، فالرواية الإسرائيلية عن الهولوكوست أغرقت العالم بالصور، وبما أننا نتحدّث عن السينما، وهي أكثر الفنون شعبية وانتشارا وحتى تأثيرا على العدد الأكبر من الناس، أمكن القول إن الرواية الفلسطينية أو العربية عن النكبة، على أحقّيتها، لم تتمكّن من مقارعة أو فضح الرواية الإسرائيلية الكاذبة الزاعمة أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب، لشعب بلا أرض. بل إن الأفلام الفلسطينية والعربية التي حُققت عن النكبة، وهي حدثٌ لا يقلّ هولا وفظاعة، أفلام على أهميتها، لا تعدو للأسف أصابع اليد ("باب الشمس" ليسري نصرالله، "الزمن الباقي" و"يد إلهية" لإيليا سليمان، "عمر" لأسعد أبو هاني، سلسلة وثائقي "النكبة" لروان الضامن، ... إلخ). وهي أعمالٌ، إن تمايزت وحقّقت بعض نجاح على المستوى العالمي، فمن المستحيل لها أن تصمد أو أن تعشّش في الضمير العالمي، في مقابل الرواية الأخرى التي شكلت تسونامي أغرق الشاشات على تنوّعها.
أسوق ذلك وفي بالي فيلمان تركا كبير الأثر وقد يشكّلان نموذجا إذا صحّ التعبير لما أمكن إنجازه وتسويقه: الأول "كفر قاسم" (1975)، للمخرج اللبناني الراحل برهان علوية، الذي يتناول المجزرة التي ارتكبها الإسرائيليون في القرية التي تحمل الاسم نفسه، والثاني "فرحة" (2021)، للمخرجة الأردنية الفلسطينية دارين سلّام، ويتحدث عن نكبة 1948 مروية بعيون مراهقة. أثار الفيلمان سخط إسرائيل، وهي قد سعت، على اختلاف الإمكانات بين الزمنين، إلى تشويه روايتيهما وعرقلة عرضهما ووصولهما إلى منصّات العرض العالمية ثم الرقمية، وفي هذا دليلٌ كافٍ، على ما أحسب، على نجاحهما في دحض الرواية الإسرائيلية وفي بلوغ الهدف الأكبر من صنعهما.
لم تحدُث مجزرة كفر قاسم أيام النكبة، لكنها تشير بوضوح إلى كيفية تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين، إذ حدثت عام 1956 في اليوم الأول للعدوان الثلاثي على مصر، إثر عبد الناصر تأميم قناة السويس. في الفيلم، يُرينا علوية الفلسطينيين أفرادا وبشرا من لحم ودم، إنهم أهالي البلدة الهادئة الكائنة شمال يافا نتعرّف إليهم وهم يتابعون أخبار العدوان، ويظهر رياء الاحتلال الذي سيقتل 45 فلسطينيا بذريعة أنهم لم يحترموا... حظر التجوّل! أما فيلم "فرحة" الذي يُعرض على "نتفليكس"، فقد أقام دنيا الإسرائيليين ولم يقعدها ضد المنصّة لأنها أتاحت عرضه، وضد الفيلم الذي يتهم إسرائيل بوحشية هي براءٌ منها (!)، فكان أن أقيمت حملة واسعة ضدّه، وجُنّدت جيوش إلكترونية لخفض معدّلات تقييمه المرتفعة، لأن "فرحة"، المستند إلى قصة حقيقية، فيلم قيّم وجميل في بساطته المدهشة. نحن مع مراهقة (14 عاما) تسعى إلى إقناع أبيها بإرسالها إلى المدرسة، وفي اليوم الذي يقوم بتسجيلها، تبدأ أحداث النكبة. يسعى الأب إلى إرسال ابنته إلى المدينة بصحبة عائلة صديقة، ولكنها ترفض، فيحبسها داخل غرفة المؤونة التي يقوم بتطيين بابها من الخارج. تبقى فرحة في الغرفة المظلمة، وقتا طويلا، منتظرة، عبر كوّة في الجدار، ثم شرخ في الباب، عودة أبيها. تلجأ عائلة فلسطينية هاربة إلى المنزل، الأب مع ابنتيه وزوجته التي تضع طفلها الثالث. لكن الجنود يداهمون المكان ويقتلون العائلة، تاركين الرضيع على الأرض ليموت، بينما تراقبه فرحة عاجزة..
أخيرا، لا أنسى ذكر فيلم إسرائيلي، نعم إسرائيلي! تناول النكبة، هو "الطنطورة" (2023)، الذي وثّق مجزرة الاحتلال في حقّ القرية المسالمة، مؤكدا بذلك الرواية الفلسطينية عن التطهير العرقي، من خلال قصة طالب إسرائيلي يتعرّض لشتى الضغوط، لأنه ينوي تأريخ أحداث المجزرة، فيُجبر على الاعتذار وتلغى شهادته، قبل أن تتحوّل أطروحته إلى فيلم وثائقي!
مشاركة الخبر: فيلم صغير يكفي على وسائل التواصل من نيوز فور مي