أزمة التعليم في المغرب تختصر مشكلات دولة
يقدّم قطاع التعليم العمومي في المغرب صورة دقيقة ومصغّرة لواقع الحال في البلاد، فالدراسة توقَّفت في المدارس الحكومية أكثر من عشرة أسابيع، بسبب إضراب هيئة التدريس، بعد رفضها النظام الأساسي الخاص بموظفي قطاع التربية الوطنية الذي اعتمدته الحكومة على وجه الاستعجال، في 27 سبتمبر/ أيلول الماضي، بعد انفراد وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي بترجمة مخرجات حوار، استمرّ زهاء عام، مع النقابات، إلى مواد قانونية باسم "النظام الأساسي"، كان بمثابة شرارة فجّرت طنجرة قطاع يغلي على نار هادئة، حاولت الحكومات المتعاقبة، منذ ربع قرن، ضبط حرارته قدر المستطاع.
بخلاف حكومة رجل الأعمال عزيز أخنوش، أو "حكومة الكفاءات" كما تصِف نفسها، التي عمدت إلى تبنّي أسلوب النعامة في تعاطيها مع قطاعٍ حسّاس للغاية، بدءا من تجاهلها الوقفة الاحتجاجية لرجال التعليم ونسائه، يوم 5 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بمناسبة اليوم العالمي للمدرّس، التي اعتبِرت حينها رسالة واضحة ومباشرة إلى من يهمّه الأمر. ثم أعقب ذلك نشر الحكومة النظام الأساسي في الجريدة الرسمية، في 9 أكتوبر/ تشرين الأول؛ أي بعد أربعة أيام فقط على واقعة الاحتجاج الوطني، من دون أدنى اعتبار للمؤاخذات المسجلة عليه من أصحاب المهنة.
فشِل رهان الحكومة على سياسة التجاهل، في انتظار تحوّل النظام الأساسي الجديد إلى أمر واقعي
بهذه الخطوة، تكون الحكومة قد فتحت الباب على المجهول، في قطاع يضم قرابة 300 ألف شخص، حيث تسبّبت باحتقان غير مسبوق في قطاع التربية الوطنية، منذ تولّي الملك محمد السادس مقاليد الحكم، وقوّضت واحدةً من ركائز تعزيز بناء الدولة الاجتماعية في المغرب. غليان زادت حدّته بفعل الأساليب المستخدمة منها في معركة تكسير العظام، لثني المضربين عن ممارسة حق دستوري (الفصل 29)، فتعرّضت مظاهرات ومسيرات رجال التعليم ونسائه للقمع والعنف المادي والمعنوي، واتُهِمت التنسيقيات (23) التي تقود المعركة بالتخوين والولاء لجهات معينة، وبلغ الأمر مداه بالإقدام على الاقتطاع من أجور المضربين، بالرغم من النقاش القانوني بشأن مدى مشروعية قيام الدولة بهذا الإجراء؟
فشِل رهان الحكومة على سياسة التجاهل، في انتظار تحوّل النظام الأساسي الجديد إلى أمر واقعي على هيئة التدريس القبول به، خصوصا بعد بلوغ الأخيرة نقطة اللاعودة إلى الأقسام والمؤسّسات إلا بعد إسقاط نظام لا يتردّدون في وسمه بـ"نظام المآسي"، ما اضطرّها، تحت ضغط جمعيات أمهات التلاميذ وآبائهم وأوليائهم، إلى التحرّك لوضع حدّ للزمن المدرسي المهدور، فاقترحت في شخص رئيسها على النقابات تجميد النظام الأساسي، في اجتهاد قانوني بلا نظير؛ فلا معنى لكلمة تجميد في القانون، مع إقرار زيادة في الأجر حُدّدت في 1500 درهم (150 دولارا)، وكأنها تريد إثبات أن جوهر معركة نساء التعليم ورجاله ليس حول إصلاح المدرسة العمومية، بقدر ما هو سعي نحو مطالب مادّية صرفة.
تعكس تطوّرات ملفّ التعليم أزمة ثقة كبيرة في المؤسّسات بالمغرب
بالموازاة مع ذلك، عملت الوزارة الوصية، ومن منطلق سياسة الترقيع، على إطلاق مبادرة تُظهر حجم الارتجالية في تسيير المسألة التربوية، تتعلق ببرنامج الدعم التربوي لفائدة التلاميذ في المؤسّسات العمومية بمختلف جهات المملكة، خلال أسبوع العطلة البينية، رغبة في طمأنة الأسر المغربية بأن الزمن المدرسي محفوظ. خطوة، وعكس ما أريدَ لها، زادت الطين بلّة، حين بيّنت درجة الاستهتار بتعليم بنات المغاربة وأبنائهم. كما كشفت منسوب التخبّط في دواليب وزارة التربية الوطنية، بإسناد عملية الدعم إلى جمعياتٍ مدنيةٍ بعيدة عن الشأن التربوي، وفق ما أكّد ذلك سؤال شفوي لبرلماني من المعارضة في مجلس النواب، تحدّث عن تولي جمعية لتربية المواشي القيام بهذه المهمة؟!
ما يجري في قطاع التعليم عيّنة عن أحوال المغرب، فأولاد الطبقات الميسورة على وشك إتمام نصف الموسم التعليمي، وفق الجدولة الزمنية المحدّدة مطلع العام الدراسي، بدروسه وأنشطته واختباراته وعطله. بينما أبناء الفقراء هائمون في الشوارع، فدفاترهم وكراريسهم لا تزال تحتفظ ببريقها بسبب قلة الاستعمال. يا تُرى، هل تقبل الدولة بكل هذا الزمن المدرسي المهدور، لو كان أبناء المغاربة وبناتهم جميعا يلجون المدرسة نفسها؟ لا يحتاج السؤال إلى جواب، لكنه يؤكد حقيقة غياب العدالة في استحقاق المواطنين لخدمات القطاعات الاجتماعية بالبلد، كالتعليم والصحة والنقل... رغم إمعان المسؤولين باستمرار في إنكار ذلك. باختصار، يعيش المغاربة في مغربين متوازيين: مغرب النخبة (الأقلية) ومغرب الشعب (الأكثرية).
تعكس تطورات ملفّ التعليم أزمة ثقة كبيرة في المؤسّسات بالمغرب، فالوزارة، وبعيدا عن النقابات، انفردت في المرحلة الأخيرة بهندسة نظام أساسي على المقاس. ورئيس الحكومة الذي طالَب هيئة التدريس بالثقة فيه، داعيا إياها إلى "إعمال النية"، لم تتردّد حكومته في اقتطاع مبالغ مهمة من رواتب المضربين نهاية الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، في خطوة تُناقِض تماما ما يدعو إليه زعيم حزب التجمع الوطني للأحرار الذي كان شعاره "تستحِقّون أحسن" في الانتخابات التي أوصلته إلى رئاسة الحكومة.
تفضح أزمة قطاع التعليم ما يروج من سرديات عن النخب التكنوقراطية المغربية التي لا تعرف الفشل
على صعيد آخر، عكست الأزمة كذلك مشكلة التمثيلية في البلد، فالمدقّق في الملفّ المطلبي وتطورات المسار النضالي ضد النظام الأساسي، يكشف أن التنسيقيات (23) هي العقل المدبّر للمعركة منذ البداية؛ أي أنها صاحبة الشرعية النضالية والجماهيرية. ولم يشفع ذلك كله لها في حضور جلسات الحوار، سواء مع الوزارة أو مع الحكومة، حتى في عزّ الاحتقان، بدعوى أنها هياكل بدون سند قانوني! وبدلا من ذلك، اختارت الحكومة محاورة نقابات تعدّ جزءا من مشكلة التعليم، فهي بلا شرعية ولا قواعد، فممثلوها لم يعودوا يمثلون سوى أنفسهم، مع التشكيك في مشروعية ذلك، فاثنان من الرباعي المشارك في الحوار مع الوزارة أحِيلا على التقاعد!
أخيرا، تفضح أزمة قطاع التعليم ما يروج من سردياتٍ عن النخب التكنوقراطية التي لا تعرف الفشل، فوزير التربية والتعليم شكيب بنموسى نموذج عن هذه النخبة. فقد تولى وزارة الداخلية في حكومتي إدريس جطو وعباس الفاسي (2006 - 2010)، وأشرف على رئاسة لجنة إعداد النموذج التنموي، وشغل منصب سفير المغرب في فرنسا... فضلا عن مسؤوليات إدارية أخرى تطغى فيها لغة التعليمات والأوامر، بخلاف ما يقتضيه الحال في قطاعاتٍ حسّاسة، كالتعليم والصحة وغيرهما، حيث يتداخل السياسي بالاجتماعي بمتغيرات أخرى تغيب عن بال نخبة رأسمالها عُدة نظرية من دون أي خبرة ميدانية.
انقضى النصف الأول من ولاية حكومة الملياردير عزيز أخنوش التي رفعت شعار "الدولة الاجتماعية"، مع عشرات من الوعود لا تزال معلقة، بما في ذلك الوعد بتعبئة المنظومة التربوية، بكل مكوناتها، قصد تصنيف المغرب ضمن أحسن 60 دولة عالميا، فأين هذه الأماني أمام كل هذا الاستهتار بالزمن المدرسي المهدور، حتى بات شبح سنة بيضاء يطلّ في الأفق، إن لم تراجع الحكومة حساباتها جيدا قبل فوات الأوان؟
مشاركة الخبر: أزمة التعليم في المغرب تختصر مشكلات دولة على وسائل التواصل من نيوز فور مي