مؤشرات انتصار غزة
أكثرية يهود إسرائيل يقفون خلف موقف حكومة نتنياهو وبخاصة الاستمرار في الحرب على أهل غزة بالغة ما بلغت قسوتها ومهما طالت مدتها. ولكن هناك قلة من اليهود المعروفين بمواقفهم المعتدلة وبمنهجهم الوسطي يقولون إن لهذا الموقف ثمناً باهظاً على إسرائيل وسمعتها واقتصادها والتعاطف معها.
ويلفت نظري كُتّاب مثل جدعون ليفي الذي أصدر مقالاً مطولاً وأجرى مقابلة مع قناة BBC البريطانية ينتقد فيها إسرائيل في حربها، ولكنه يقول إنها خالفت أخلاقها وسلوكها. ولكن كل إسرائيل قامت على التزوير والكذب التاريخي والدعائي والثقافي، ولم يكن لديها كمجموع أساس خلقي ترتكز عليه أو تستند إليه.
والحرب المستمرة أثارت تعابير كثيرة. وعندما يطرح كثير من المثقفين العرب السؤال المهم: "ما هي مؤشرات الانتصار الإسرائيلي في الحرب الهمجية على غزة؟" فإن إجابتهم تأتي من المعايير التي حددتها إسرائيل لنفسها. وهي القضاء على حركة المقاومة مع التركيز على حركة حماس، وملاحقة قادتها وقتلهم. وضمان ألا تشكل غزة في المستقبل أي تهديد أمني لإسرائيل في أي يوم من الأيام. وينحصر كثير من التحليل في هذه الأهداف والتي يتفق معظم المحللين على أن أولها (القضاء على حماس وحركات المقاومة الأخرى) شبه مستحيل لأن من الاستحالة القضاء على فكرة.
وثانيها، لم تتمكن إسرائيل بعد ما يقارب من (89) يوماً من القتال الدامي من تحرير الأسرى أو من إلقاء القبض على قائد المقاومة أو جرحه أو أسره. ولو تمكنوا من ذلك لملأوا الدنيا اً وفرحاً. وآخرها إضعاف المقاومة وإعادة توزيع السكان الغزيين بطريقة تجعل من المستحيل عليهم تهديد أمن التجمعات الإسرائيلية مهما قربت من غلاف غزة أو ابتعدت عنه.
وهذا الهدف مرهون بنتائج المعركة. ولكننا نعلم أن لإسرائيل أهدافاً ومطامع أكبر بكثير مما يبدو على السطح. فهي مستغرقة في حلم احتلال كل ما تسميه بأرض إسرائيل في فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر (من المتوسط إلى نهر الأردن) وهي لذلك تسعى بعد إجبار أهل غزة على التموطن في أماكن تحددها، تريد لأهل الضفة أن يغادر معظمهم كرهاً أراضي الضفة الغربية إلى الأراضي الأردنية شرقي النهر.
ولكن هدفهم يمتد لأبعد من ذلك، فتلاميذ جابوتنسكي أمثال والد نتنياهو ونتنياهو نفسه يقولون إن لنهر الأردن ضفتين الغربية لإسرائيل والشرقية كذلك لإسرائيل. وهو بالطبع أمر ليس سهل المنال وسيسعون خلفه. ولكن الحرب الدائرة في غزة ونتائجها قد لا تجعل هذه التخيلات الصهيونية قابلة للتحقيق.
ولو تبين أن الحل العسكري والاحتلال الإسرائيلي لما يسميه الصهاينة الذين لم يسمحوا بكتابة دستور لإسرائيل ولم يرسموا لها حدوداً بل أبقوها مفتوحة يريدونها من الفرات إلى النيل (معظم الشرق العربي) غير متاح ولا ممكن، فإن الخطة البديلة لديهم هي الاستعمار الاقتصادي. أي أنهم يخططون للسيطرة على مقدرات المنطقة، واستغلال التفوق التقني في مجالات الذكاء الاصطناعي، والتسليح، والزراعة وتقنيات المياه والتجارة، والسيطرة المالية والإعلامية لكي يستخدموا بعض العرب للسيطرة على كل عرب الشرق، ومن هناك ينتقلون للسيطرة بالتعاون مع بعض الدول (الهند مثلاً) للسيطرة على منطقة الخليج وشمال أفريقيا.
ومن ينظر إلى موقع غزة وخريطتها فإن القطاع بقدرته اللامحدودة على المقاومة، وبموقعة الجيوستراتيجي سوف يسمح لإسرائيل ومَن وراءها بتمرير مشروع قناة بن غوريون، ما يعني جعل قناة السويس غير مجدية للشحن، ويعطي إسرائيل ميزة الاستفادة مستقبلاً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، وكذا من مبادرة كوريدور بهارات الهندي لربط تجارة هذين الاقتصادين وباقي الاقتصادات في شرق آسيا وجنوبها بالغرب الأوروبي ومن ثم القارة الأميركية عبر إسرائيل.
ومن هنا صارت الحرب على غزة معركة مهمة يجب على إسرائيل أن تفوز بها لكي تتمكن من السير نحو تحقيق غاياتها الكبرى وإحكام قبضتها على اقتصاد العالم. ولعل غزة صارت هي ثقب الباب الذي تطل منه إسرائيل على كامل غرفة آمالها وطموحها. فإذا أوصد الباب في وجهها، فإنها ستخسر كثيراً من هيبتها وموقعها، وحتى الغرب المنافق سوف يتخلى عنها ويبحث له عن أعوان جدد في المنطقة.
ولذلك، فإن من مصلحة العالم العربي المقسم والمجزأ أن يتفهم الحقائق بعمق إذا أراد الحفاظ على ذاته وأنظمته وشعوبه، وهي أن إسرائيل يجب أن تفشل في غزة، ومؤشرات الفشل هي إبقاء غزة وسكانها كما هم دون تهجير أو قصقصة أو اقتطاع.
والأمر الثاني هو بقاء حماس في حكم غزة، حتى لو أن الهجمة عليها وعلى سمعتها قوية، المهم أن يبقى النظام السياسي الحاكم في غزة ثابتاً إلى حين يختار الشعب الفلسطيني في كامل أرض فلسطين قيادته، والأمر الثالث هو أن يجري وقف كامل لإطلاق النار.
أما إذا تخاذل العرب قبل وقف القتال وانسحاب القوات الإسرائيلية عن نصرة حماس وحركة المقاومة، فإن إسرائيل ستخرج منتصرة أمام نفسها وأمام مؤيديها وداعميها، وأمام العالم كله، وسوف يضيع الدم الغالي الذي سفح على أيدي الإسرائيليين القذرة هباء منثوراً.
لقد كانت المقاومة تعد نفسها كما فهمنا من سنوات لكي ترد اعتداءات إسرائيل عليها. وهذا عمل عظيم بحد ذاته. ولكن إسرائيل ومن ورائها الغرب وبخاصة القيادة الأميركية كانوا جميعاً يعدون لمخططهم الرهيب، وهو القضاء على المقاومة، والاستيلاء على غزة، وبناء قناة بن غوريون واستثمار الغاز في شواطئها، ومن ثم يعودون لينكلوا بنفس البشاعة بأهلنا في الضفة الغربية.
وهكذا تصبح الدول العربية مهيضة الجناح، وتحت رحمة إسرائيل والوجود العسكري الغربي في المنطقة.
لقد ساهمت الدول الاستعمارية والاستغلالية في ضرب الصومال وسورية والعراق وليبيا، وفي تقسيم اليمن، وفي تهديد الاقتصاد المصري، والهيمنة على الموارد الطبيعية وبخاصة مصادر الطاقة الأحفورية في الوطن العربي، وجعلت إمكانات مقاومة إسرائيل عسكرياً واقتصادياً أوهى وأضعف. وهيجت العلاقات بين العرب وإيران، والسنة والشيعة، وباقي الإثنيات والطوائف. وصورتنا أبواقُ دعايتهم على أننا جهلة وظلمة وإرهابيون، وأن ديننا دين لا يرحم. والواقع أن هذه هي صفاتهم التي رمونا بها فصرنا في عين العالم مستحقين للقتل والتدمير.
الحرب على غزة غيرت هذا المزاج كثيراً، وأهاجت لدى شعوب العالم كثيراً من التطورات الإيجابية. فقد أبدتنا الحرب أن لنا قدرة على التخطيط للحروب والمقاومة والاستفادة من تكنولوجيا الاتصالات، ومن ردع قوة كبيرة مسلحة بأغنى وأظلم المعدات والذخائر العسكرية بعدد قليل من المجاهدين المصممين على الحياة.
وكذلك أرتنا هذه المقاومة المتميزة أننا لسنا شعباً عربياً مستغرقاً في اللذات، إلى حد الإفراط. ومستهلكين إلى حد القرف، بل أظهرتنا بملابس عادية بسيطة وبأدوات أبسط قادرين على الابتكار، والإبداع والتحدي والتصدي. وقد قيض الله لنا هذا الأهوج نتنياهو لكي يرتكب المجازر بحق النساء والأطفال وبتأييد رسمي أميركي وبتأييد شعبي إسرائيلي. ولكن كل طائراتهم وقنابلهم ذات الوزن الثقيل لم تفلح في كسر الإرادة.
وقد اضطر كثير من قادة العالم الذين سارعوا إلى نصرة إسرائيل بعد السابع من تشرين الأول أن يعيدوا النظر إما لإدراكهم مدى الخطأ الذي ارتكبوه، أو لأن شعوبهم ثارت عليهم واستنكرت مواقفهم البشعة المنافقة.
معركة غزة ربما تكون بوابة الجنة خارج النار، وإن أحسنا دعمها واستثمار نتائجها، فسوف يكون لها دور حتى في إعادة رسم خريطة العالم.
مشاركة الخبر: مؤشرات انتصار غزة على وسائل التواصل من نيوز فور مي