جميل ملاعب: سيرةٌ لهذا الجسد الواحد
معرض جميل ملاعب لهذه السنة، ولجميل دائماً معرضه السنوي، في "غاليري جانين ربيز" ببيروت، يدور حول العاريات. جميل ملاعب في معرض جديد، وكلُّ معارضه جديدة. تتوقّع منه في كلّ معرض لوحة جديدة، ليس بموضوعها فحسب، ولكن بأسلوبها وتقنياتها. من هنا يصعب أن نردّ ملاعب إلى مدرسة، أو إلى أسلوب. ثمّة بالتأكيد فارق واسع بين مختلف معارضه ولوحاته.
في كلّ معرض ننتظر من ملاعب مفاجأة، نعرف أين صار ملاعب، ولا يعني ذلك أنّ الفنان يبتكر على الدوام، أو يكون دائماً في الأمام. إنّه هكذا يداور بين مواضيع ومراحل، على امتداد الفنّ الحديث. يمكننا لذلك أن نُميّز بين حفريات ملاعب، ذات الاستلهام المكسيكي وريفياته ولوحاته الأخيرة، التي تحاول تنقيطية خاصّة، تتواكب فيها وتتمازج مفردات من التاريخ والأسطورة وعلى نحو شبه ملحمي. لا ننتظر من معرض ملاعب الأخير، من عارياته، تجريباً جديداً، كما لن نتوقّع ذلك من الأزهار، التي كانت موضوع معرضه ما قبل الأخير. في المعرضين الأخيرين يمكن القول إنّ ملاعب يعود فيهما إلى تاريخ الفنّ، بحيث إنّ عارياته، في معرضه الجديد، تعود بنا إلى معالجتها في تاريخ الفنّ، إلى موضوع العري بوصفه ركناً في هذا التاريخ.
عاريات جميل ملاعب، في معرضه الجديد بعنوان "جميلات" (يستمرّ حتى الثالث والعشرين من الشهر الجاري)، تكاد تكون واحدة. ليس فقط لأنّ الموديل المرسوم واحد في الغالب، بحيث يقترب الوجه والجسد في كلّ اللوحات، مع أنّ كل لوحة تبدو على حدة، لحظة أو حركة أو تفصيلاً آخر للنموذج نفسه.
بتفاصيلهن وملوّناتهن ووضعياتهن أبعد ما يكنّ عن الجمال السامي
عاريات ملاعب الراقدات، في الغالب، في أوضاع مختلفة، إنّما اختلافها لا يجعلنا نغفل عن أنّ النموذج هو نفسه، وأنّ المعرض قد يكون سيرة، أو يوميات لهذا الجسد الواحد. لكن استلهام ملاعب للعري لا ينتمي إلى كلاسيكيات هذا الفن. لن نجد الكمال الأنثوي في هذه اللوحات، لن نجد هكذا تاريخ العري ومراجعه. إذا كان لنا أن نُفكّر في عري وراء عري ملاعب، أو يقترب منه، فلن نجد العري المثالي. سنجد أنّ ما يردّنا ملاعب إليه، دون شبهة التقليد أو الاتباع، هو عري فنّان كغوغان في تاهيتياته. لوحة ملاعب بالطبع، هي هنا بعيدة عن ملوّنة غوغان، وعن مبانيه.
لسنا نجد هنا مساحات غوغان اللونية المتفجّرة، ولا شهوانية وبدائية عارياته، وطبعهن المحلّي. لوحات ملاعب، في عارياته، تكاد تكون واحدة، لكن العري هنا ليس مثالياً، إنّه لا ينتمي إلى أيّ نوع من توثين العري أو السموّ به. عاريات ملاعب، وهذا ما يردّنا إلى غوغان، هنّ بتفاصيلهن وملوّناتهن ووضعياتهن، أبعد ما يكنّ عن الجمال السامي، بل هنّ، إلى حدّ ما، لسن جميلات حقّاً. العري هنا يكاد يكون نائماً أو طامساً. الملوّنة تكاد تكون نفسها لكلّ جسد، والأجساد الممدَّدة الراقدة، تظلّ في حركتها شبه الساكنة تلك، بنوع من الهمود. بحيث إنّ اختلاف الوضعيات، بين لوحة ولوحة، لا يؤدّي إلى الإشعار بحياة عارمة، ولا حراك كبير، ولا سيرة خاصّة. نحن في المعرض أمام حياة واحدة، سيرة واحدة، تكاد تشمل كلّ الراقدات في عريهن.
ثمّة في المعرض لوحة ذات طول نجد فيها حشداً من الأجساد المرسومة بخطوط تجعل من اللوحة تركيباً متداخلاً وعارماً. هناك أيضاً، في محلّ آخر، رباعية مؤلّفة من أجزاء طولية متقابلة لها ذات الأسلوب، الذي يعتمد الرسم الخطي والأشكال المتعالقة. هذان العملان، اللذان يردّاننا إلى محفورات ملاعب في أواخر التسعينيات، هُما ما يلفتان بشكل خاصّ في المعرض. إنّهما تقريباً من أسلوب آخر ولوحة أُخرى، إنّهما وحدهما تضجّان في المعرض بين حشد من النساء الراقدات بدون صيحة.
* شاعر وروائي من لبنان
مشاركة الخبر: جميل ملاعب: سيرةٌ لهذا الجسد الواحد على وسائل التواصل من نيوز فور مي