"ماء العين" التونسي: ارتباكات تُفقِدُه السينما
أول فيلم روائي طويل لها ينبثق من فيلمٍ قصير، تُنجزه عام 2018، بعنوان "أخوّة". الروائي الطويل، "ماء العين"، يُعرض للمرّة الأولى دولياً في مسابقة الدورة الـ74 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، علماً أنّ عنوان المشروع نفسه مختلفٌ: "الأمومة".
هذا تفصيلٌ مرتبطٌ بمعلومة، تقول أيضاً إنّ للفيلم نفسه عنوانين آخرين، يُعبّران أكثر من العنوان العربي عن جوهر النصّ، ومسار أفراده، وهواجسهم وسيَرهم ومصائرهم: "إلى من أنتمي" (باللغة الإنكليزية)، و"هناك من حيث أتينا" (باللغة الفرنسية).
الاستناد إلى فيلمٍ سابق، يكون قصيراً غالباً، في إنجاز فيلمٍ طويل، مسألة عادية، يُتقنها سينمائيون وسينمائيات عديدون في بلدان مختلفة. المشكلة تظهر في كيفية الاشتغال، فتجربة "ماء العين" تقول إنّ براعة القصير أهمّ وأعمق وأجمل، وإخراج الطويل غير متمكّن من صُنع عملٍ درامي بجماليات سينمائية أساسية.
المقارنة بين الفيلمين، اللذين تُخرجهما التونسية الكندية ميريم جوبير، ناتجةٌ من تشابه الحكاية. لكنّ القصير أقدر على الإمساك بنبضها وحيويتها، وعلى تحصينها من كلّ مبالغةٍ في اختبار أنواع سينمائية، واشتغال إخراجيّ. في "ماء العين"، يُصيب اعتمادُ الفانتازيا، في سرد وقائع مَعيشة، النصَّ البصري بأكثر من عطب: إطالة مملّة لتفاصيل، بعضها غير مفيدٍ درامياً وفنياً. خللٌ في المسار السرديّ، وفي بعض محطّاته أخطاء، إذْ يُروَى لاحقاً (قبل وقتٍ قليل على الخاتمة) أنّ ريم (ضياء ليان)، المُنقَّبة، مقتولة قبل مجيئها مع زوجها مهدي (مالك مشرقي) إلى منزل والديه، إبراهيم (محمد قريع) وعائشة (صالحة النصراوي)، اللذين يُقيم معهما الابن الأصغر آدم (ريان مشرقي).
هذا مثلٌ. تكثيف الكوابيس الخانقة مُضرٌّ، لعدم التمكّن من صُنعها بحرفيةٍ مهنيّة أولاً، ولعدم التمكّن ثانياً من توظيفها في السياق الدرامي لحكاية العودة، والتمزّق العائلي، والتشتّت الذاتي، وهذه مسائل وانفعالات تطرحها جوبير (كاتبة السيناريو أيضاً) من دون تعمّق في دلالاتها وتأثيراتها وحضورها.
هذا كلّه غير مُلغٍ لأهمية الحبكة ـ القصة، المتشابهة بين الفيلمين، القصير والطويل: ابنٌ (أو أكثر) يختفي فجأة من منزل الأهل، قبل اكتشاف التحاقه بـ"داعش". عودته مُثيرة لتساؤلات وقلق. في القصير، يُخبر الأب محمد (محمد قريع نفسه)، الشرطة بعودة "الإرهابي الداعشيّ"، مع زوجة سورية منقَّبة (تؤدي النصراوي دور الأم أيضاً). في "ماء العين"، لن يُخبر إبراهيم أحداً، لكنّه عاجز عن مواجهة اللحظة والحالة، المنبثقتين من عودة مهدي وريم. والأخيرة تُثير ريبةً، واختفاء أفرادٍ من البلدة الريفية، المطلّة على البحر، يُثير قلقاً.
في "أخوّة"، هناك تعرية للرجل ـ الأب، في صراعه مع ذاته وابنه، ومع "العالم" الذي يعود الابن منه. في "ماء العين"، يغلب الاهتمام بالمرأة ـ الأم، وانهياراتها الذاتية، وغرقها في جحيم اليوميّ، فابنها الثاني أمين (شاكر مشرقي) مقتول على أيدي مقاتلي "داعش" لمحاولته الفرار منهم، ومهدي تائهٌ ومُضطرب لتخلّيه عنه، وارتباطه بريم غير مفهوم، وارتباك علاقته بأبيه غير مُكتمل بصرياً ودرامياً.
"ماء العين" متصنّع في اشتغالٍ، تريده ميريم جوبير سينمائياً، من دون قدرتها على بلوغ حدٍّ معقول، على الأقل، من السينما. هذا لا يُخفي جمالية الأداء التمثيلي لمحمد قريع وآدم بِيسّا (مؤدّي دور بلال، رجل أمن وصديق الأخوين مهدي وأمين) وريان مشرقي. أما صالحة النصراوي، التي في ملامح وجهها طاقة هائلة من جمالية تعبير صامت، تُبالغ أحياناً في تأدية دور عائشة، القلقة والضائعة والصارمة، أحياناً.
مشاركة الخبر: "ماء العين" التونسي: ارتباكات تُفقِدُه السينما على وسائل التواصل من نيوز فور مي