السنغال... واحة ديمقراطية يتهدّدها الاستبداد
لا تزال الرياح تتقاذف الديمقراطية في السنغال، منذ الرئيس ماكي سال، في 3 فبراير/ شباط الجاري، تأجيل الانتخابات الرئاسية، قبل ساعات من انطلاق الحملة الانتخابية، للاقتراع الذي كان مقرّراً في 25 فبراير، بين 20 مرشّحاً، وفق ما جاء في القائمة الحصرية للمجلس الدستوري، شهر يناير/ كانون الثاني المنصرم. شكّلت هذه الخطوة التي اعتبرها كثيرون "انقلاباً دستورياً" سابقة في التاريخ السياسي للبلاد، أفضت إلى أزمة سياسية حادّة، من شأنها تهديد أبرز واحة للديمقراطية في منطقة غرب أفريقيا بالتصحّر والقحط.
سارع الرئيس السنغالي إلى تطويق أزمة بدأت في التفاقم، بتوجيه رسائل طمأنة إلى الداخل والخارج، تراوح مضمونُها ما بين تأكيد غيابه عن السباق الانتخابي المقبل، ورغبته في إطلاق حوار وطني بغية تهيئة أمثل الظروف لإجراء انتخاباتٍ شفّافة، فحتى قرار تأجيل الانتخابات، بحسب الرجل، كان دفاعاً عن مقتضيات الدستور، في أعقاب الأزمة التي تفجَّرت بسبب تشكيل البرلمان لجنة تحقيق مع قاضيين في المجلس الدستوري، بشأن استبعاد المرشّح كريم واد؛ نجل الرئيس السابق عبد الله واد (2000 - 2012)، من قائمة المرشّحين للرئاسة بدعوى ازدواجية الجنسية، في حين ضمّت اللائحة زور وارديني؛ مرشّحة حركة "السنغال الجديدة"، الحاملة للجنسية الفرنسية.
أربك دخول القضاء الدستوري على الخط، مساعي الرئيس ماكي سال، بإلغائه المرسوم الرئاسي، ثم إبطال قانون الجمعية الوطنية، اللذيْن يرميان إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية، حتى منتصف شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل، مبرّراً ذلك بتعارضه مع مقتضيات المادة 31 من الدستور السنغالي، ذلك أن الآجال القانونية المنظّمة للانتخابات قاطعة، وما قُدّم من مسوّغات لتبرير التأجيل لا يُعتدُّ به دستورياً. هكذا يفتح الرئيس على نفسه الباب لإمكانية مساءلته، بعد انتهاء ولايته الرئاسية، لأن المساس بالدستور أو تعطيله يُعدّ جريمة جنائية.
تصدّعات في المعسكر الرئاسي من شأنها أن تخدم مصالح المعارضة خلال عملية التصويت، وقد برزت بقوّة إلى السطح
تلقّت أحزاب المعارضة قرار المجلس الدستوري الحازم بارتياح. وتفاعلاً معه، وقّعت نخبة من الأكاديميين والمحامين في البلد على عريضة تطالب ماكي سال بالعدول عن قراره، والتقيد بالقوانين التي لم يسبق لأيٍّ من الرؤساء (ليوبولد سنغور، عبده ضيوف، عبد الله واد) الذين تعاقبوا على حكم البلاد أن تجاوزها، منذ استقلال البلاد مطلع عقد الستينيات.
يحاول زعيم التحالف من أجل الجمهورية بهذه المغامرة، التي تبقى بالون اختبار لقياس إمكانيات التراجع عن التقاليد الديمقراطية في البلد، تحقيق سيناريو العهد الثالثة، بكسب مزيدٍ من الوقت قصد البحث عن حلٍّ قانونيٍّ لضمان البقاء في الحكم، أو إحياء فتوى قضائية، تعود إلى عام 2012، تقضي بإعادة احتساب عدد الولايات الرئاسية عقب تعديل الدستور، بذلك تكون هذه أول ولاية للرئيس في ظل دستور 2016، خصوصاً أنه استطاع إدارة ملفّات خصومه التقليديين؛ تارة بالاحتواء، كما حدث مع إدريس سيك؛ خصمه الأول في آخر انتخابات، الذي أسندت إليه رئاسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وتارة أخرى بالاستبعاد، عن طريق تحريك المتابعات القضائية ضد خصومه، كما جرى مع خليفة سال؛ الرئيس الأسبق لبلدية دكار بتهمة الفساد، ومع كريم واد؛ القيادي في الحزب الديمقراطي السنغالي، بتهمة الثراء غير المشروع. أو على الأقل سيناريو استغلال الوقت في صناعة المشهد السياسي المقبل، بإعادة ترتيب البيت الداخلي لحزبه، قصد إيجاد مرشّح توافقي بديل داخل ائتلاف "متّحدون من أجل الأمل" بدل رئيس الوزراء الحالي، الملياردير أحمادو باه، الذي يُجابَه بالرفض من الحرس القديم في الحزب الحاكم، لافتقاده الكاريزما والشعبية اللازمتين لكسب الانتخابات. في المقابل، تميل كتلة الأغلبية الرئاسية إلى الرهان على كريم واد، حليف فرنسا ونجل الرئيس الأسبق. تصدّعات في المعسكر الرئاسي من شأنها أن تخدم مصالح المعارضة خلال عملية التصويت، وقد برزت بقوّة إلى السطح، ب الأمين العام للحكومة، الوزير عبد اللطيف كوليبالي؛ استقالته من منصبه اعتراضاً على قرار الرئيس تأجيل الانتخابات.
جاءت مساعي ماكي سال لترك بصمته في الاستحقاق الانتخابي المقبل بمفعول عكسي، إذ ظهر بصورة المتلاعب بمستقبل البلاد
جاءت مساعي ماكي سال لترك بصمته في الاستحقاق الانتخابي المقبل بمفعول عكسي، إذ ظهر بصورة المتلاعب بمستقبل البلاد، ما قد يدفع شريحة كبيرة من الناخبين إلى التصويت العقابي ضد مرشح الحزب الحاكم، لمصلحة أحد مرشّحي أحزاب المعارضة، ممن يتوفّر لهم أكثر من سبب للفوز في الانتخابات، ولا سيما الأسماء التي حلّت، اضطرارياً، محلّ رموز بارزة في الحراك الشعبي في السنغال، ممّن تعرّضوا للتضيق بأساليب مختلفة، من السلطة، قصد إبعادهم عن المشهد السياسي السنغالي.
تبقى حالة حزب "باستيف" (الوطنيون من أجل العمل والفضيلة والإخاء) الذي تأسّس عام 2014 بقيادة عثمان سونكو؛ المحكوم عليه بالسجن سنتين نافذتين بتهمة "إفساد الشباب"، أبرز مثال على ما يحدق بالديمقراطية والتعدّدية السياسية من مخاطر، في بلدٍ شكّلت تجربته الفريدة استثناء في منطقة مضطربة، فزعيم هذا الحزب الفتِي الذي نحت مسارَه بعيداً عن النخب التقليدية، نجح في غضون أربع سنوات فقط، وفي أول مشاركة في الانتخابات الرئاسية، عام 2019، في الحصول على المركز الثالث (15,6٪ من الأصوات) وراء الرئيس ماكي سال وزعيم الاشتراكيين إدريس سيك، مستبعدٌ من المشاركة في هذه محطّة الانتخابات.
شهدت الأعوام الماضية عودة قوية إلى الانقلابات في المنطقة، من فرص نجاحه في تقويض واحة الديمقراطية في السنغال
يذكر أن وزارة الداخلية حاولت مبكّراً قطع الطريق عن زعيم المعارضة الأول لتسجيل حضوره في السباق الانتخابي، بها، نهاية شهر يوليو/ تموز 2023، حلّ حزب باستيف، بموجب مرسوم، بالتزامن مع صدور أمر قضائي بحبس زعيمه، بعد توجيه اتهاماتٍ جنائيةٍ إليه، بسبب دعواته المتكرّرة إلى التمرّد ما أسفر عن سقوط ضحايا ما بين مارس/ آذار 2021 ويونيو/ حزيران 2023. حزب ترى فيه النخبة الحاكمة تهديداً مباشراً لها، ولمصالح باريس حليفها التقليدي، وتعتبره امتداداً لحركة "يانا مارا" (لقد اكتفينا)، التي قادت حراكاً شعبياً شبابياً قويّاً في السنغال، عام 2011، رافعة شعار "ليس هناك محتوم، هناك فقط مسؤوليات مجهورة".
صحيحٌ أن الثقافة الديمقراطية عريقةٌ في السنغال، فقد استطاعت إرساء شكل مؤسّسي للدولة، تجاوز الطبيعة القبلية للمجتمع، ونجح في إبعاد الجيش عن ملعب السياسة، وكرّس تعدّدية سياسية مدعومة بمجتمع مدني قوي، تسانده الطرق الصوفية التي تضطلع بدور محوري في تحقيق الاستقرار. يقلّل ذلك كله من فرص نجاح الرئيس ماكي سال، ليجعله قاب قوسين من تكرار تجربة سلفه عبد الله واد، عام 2012، حين حاول زجّ الديمقراطية السنغالية في نفق السلطوية، من دون أن ينجح في ذلك. في المقابل، يعزّز تأييد فرنسا المطلق الرئيس الحالي، اعتباراً للأدوار التي تلعبها دكار بالنسبة لباريس، التي تسعى جاهدة إلى ضمان فوز رئيس في حلفها، مع تزايد حمّى اتجاه بعض دول غرب أفريقيا نحو موسكو. ناهيك عن توفّر بيئة إقليمية متصالحة مع الانتكاسات الديمقراطية، فقد شهدت الأعوام الماضية عودة قوية إلى الانقلابات في المنطقة، من فرص نجاحه في تقويض واحة الديمقراطية في بلاد التيرانغا.
مشاركة الخبر: السنغال... واحة ديمقراطية يتهدّدها الاستبداد على وسائل التواصل من نيوز فور مي