جامع الجند وجامع صنعاء.. أيهما بني أولاً؟ (1-3)
ساهمت وسائل الإعلام ومراسلوها وكُتّابها على نقل كثير من المواضيع التاريخية اليمنية بغير تدقيق ولا تمحيص، حتى صارت من المسلمات لدى القراء والمتابعين والباحثين، وتتناسخ وتتناسل فيما بينها، وكل وسيلة تأخذ عن الأخرى، مع ثورة الإنترنت اليوم المساعدة على كل الأبحاث، مما قلب الحقائق عن وجهها، ومن ذلك مثلاً موضوع بناء جامع صنعاء على أنه الأول في تاريخ الإسلام في اليمن، وكذلك مسجد (أهل الكهف) الذي تناولناه في حلقة سابقة، أو إرسال علي بن أبي طالب إلى صنعاء، أو إسلام اليمنيين كلهم في يوم واحد، وغيرها من المواضيع.
وهنا أكتب هذه الحلقة للتصحيح عن بناء مسجدي الجند وصنعاء بالأدلة البحثية..
ما من شك أن الجامعين بنيا بأمر وتوجيه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما سيتضح لاحقاً من خلال الأحاديث الدالة على ذلك؛ حيث أوصى معاذ بن جبل بأول خطوة له إن حقق العلامات الجغرافية الموجودة في الجند أن يبني المسجد هناك، وكذلك أوصى وبر بن يحنس الخزاعي بنفس الوصية إن وقع على العلامات الجغرافية والمكانية لمكان المسجد لاحقاً في صنعاء.
يذهب كثير من المهتمين بالتاريخ اليمني، ومنهم بعض المؤرخين والكُتّاب – وصار متعارفاً عليه اليوم - إلى أن جامع صنعاء بني قبل جامع الجند بثلاث سنين؛ أي في السنة السادسة للهجرة، كما أشاعوا، وجامع الجند بني في السنة التاسعة، ومنهم من يقول في السنة الحادية عشرة.
ويستدل القائلون بهذا الرأي بما ذهب إليه المؤرخ محمد بن علي الأكوع أن الثلاثة الجوامع بنيت على مبرك ناقة رسول الله التي كانت مع معاذ إثناء إرساله إلى اليمن، وكذلك بحديث وبر بن يحنس وقيل (حنش) الخزاعي، باني مسجد صنعاء ورسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صنعاء وأبناء باذان - ولاة اليمن حينها - لمقاتلة الأسود العنسي الذي ادعى النبوة في اليمن، وصار يقتل كل المسلمين فيها.. فلما قتل الأسود العنسي قال وبر: "هذا الموضع الذي أمرني رسول الله أن أبني المسجد فيه"، وهو ما ذكره الرازي في كتابه "تاريخ صنعاء". وهو يتحدث عن موقع الصخرة في بستان باذان بصنعاء.
ولكن على عكس ما ذهب إليه المحتجون بهذه الحادثة فقد دل هذا الأمر على أن مسجد صنعاء بني في العام الحادي عشر للهجرة عند مرضه - صلى الله عليه وسلم - الذي توفي فيه.. "وروي بن عباس قال: قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسود وطليحة ومسيلمة بالرسل، ولم يشغله ما كان به من الوجع عن القيام بأمر الله والذب عن دينه. وذكره الواقدي فيمن أسلم من أهل سبأ (يعني وبر)، وروي عنه أنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم:
"إذا قدمت صنعاء فأت مسجدها الذي بحيال ضين (جبل شمال صنعاء بهمدان يطل على ضروان وغيرها) فصل فيه"، فلما قتل الأسود العنسي قال وبر: هذا الموضع الذي أمرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أبني فيه المسجد" (قرة العيون- لابن الديبع- صـ67)..
بينما كان الموقف مع معاذ على النحو التالي.. أولاً: أعطى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ناقته الخاصة لمعاذ، وعممه بعمامته، وقام يودعه في المدينة وهو يوصيه بعدة وصايا، ومنها ما كشف له عن نفسه بأنه سيتوفى ولن يلقاه معاذ بعد ذلك، وقال لمعاذ وهو يرسله: "إذهب إلى الجند منطقة بين السكون والسكاسك وحيثما دارت بك هذه الناقة وبركت فأذن وابتن مسجدك هناك"، فضلاً عن الوصايا المعلومة في كتب الحديث من حيث الفقه والشريعة والحكم وغيرها.
ولما وصل معاذ إلى جند من الأجناد (هناك مناطق كثيرة في اليمن تسمى الجند ومشتقاتها، وخاصة في تعز)، فدارت به الناقة وأبت أن تبرك، فسأل: "هل من جند غيرها؟"، قالوا: "نعم. جند ركامة"، فلما أتاه دارت وبركت، فنزل معاذ بها فنادى بالصلاة ثم قام وصلى.
ويبدو أن الجند التي وصل إليها معاذ أولاً هي الجند الغربية التي تسمى اليوم بالجندية، جوار مدينة القاعدة، والتي توجد بها مدينة أثرية مطمورة من أيام الدولة القتبانية، ويبدو أنها كانت مدينة فاعلة وحية ومؤثرة في المحيط حتى أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسوله معاذ إليها واتخاذها عاصمة للدولة الإسلامية هناك ومقر إقامة مبعوثه إلى اليمن. حيث إن تسمية الجند له علاقة بالأعمال العسكرية والجُنْدِية في ذلك المكان الذي تتسمى كثير من مناطقه بأسماء لها علاقات عسكرية وحربية.
..... يتبع
مشاركة الخبر: جامع الجند وجامع صنعاء.. أيهما بني أولاً؟ (1-3) على وسائل التواصل من نيوز فور مي