ستيفان بابي.. درْسٌ مقارن بين الشريعة والقانون الفرنسي
يقترن مصطلح "الشريعة" في المخيال الأوروبي بخِطابَيه الإعلامي والسياسي بصورة التشدُّد. ويُستنتج، بناء على هذا الوهم، عدم ملاءمتها للقيم الجمهوريّة والعلمانيّة، فضلاً عن تعارضها مع حقوق الإنسان وقواعد القانون الحديثة. ولذا، يسود الاعتقاد بأنّ الأحكام الشرعيّة، وهي المُتأتية من مصادر دينيّة مرتبطة بغايات ما ورائيّة، تتنافى جوهريّاً مع القانون الفرنسي ذي المعايير الوضعيّة المُعَلْمَنة. وبذلك، يُقدّم الاختلاف بين الشريعة والقانون كما لو كان تعارضاً بنيويّاً بين مصدريْن للقيم ورؤيتيْن لـ الإنسان.
تصدّى الباحث الفرنسي ستيفان بابي (1965) في كتابه: "الشريعة والقانون الفرنسي"، الصادر حديثاً عن "منشورات جامعة سترازبورغ"، إلى تفنيد هذه الرؤية التي سادت منذ القرن التاسع عشر، لمّا اكتشف الاستشراق ما سمّاه آنذاك: القانون الإسلامي. وعمل على إظهار تهافت هذه الرؤية لتأكيد إمكانية التقريب بين المصدرَيْن، عبر معالجة كيفيات استيعاب القانون الفرنسي لعدّة أحكام شرعيّة ضمن أنسجته المفهوميّة والإجرائيّة.
نقدٌ لمفهوم العلمانية والطابع الوضعيّ الصارم للقانون
في القسم الأول من هذه الدّراسة، حلّل الباحث مسائل من القانون الدّولي الخاص، حيث يجري التقريب بين قواعد القانون الفرنسي وبعض الأحكام الشرعيّة، في حالة التعارض، عبر الإحالة على قوانين الدول العربية - الإسلامية المستوحاة من الفقه. وفي القسم الثاني انتقى أمثلة من القانون الداخلي، حيث يبدو التوافُق في العديد من الوضعيات أكثر وضوحاً، رغم التضخيم الإعلامي التي يُبرز التضارُب كما لو كان غير قابل للتصالح. وقد اقتبست الأمثلة من حقول شتى كالزّواج بأركانه التفصيليّة، والنَّسب بين الأبوّة البيولوجية والتبنّي والكفالة وحتى الميراث، وهي مسألة أكثر حساسيّة لما فيها من التمييز بين الجنسَين. كما تناول الباحث مسائل الاقتصاد الإسلامي والختان وطُرق دفن موتى المسلمين وأداء الصلوات في الفضاء العام، فضلاً عن القواعد المتعلّقة بالأكل والشّراب وعقد القِران واللباس وغيرها.
ولدراسة هذه القضايا، اعتمد بابي منهج التحليل المقارِن عبر عرض الحكم الشرعي مع ما يقابله من القواعد والمواد القانونيّة الفرنسية لإظهار أوجه التشابه، وهي الغالبة، أو التنافر وهي أقلّ مما يُتصوّر بكثير. كما التجأ بابي إلى وضع الحالات القانونيّة المدروسة ضمن السّياق السياسي الفرنسي الذي أنتجها أو الذي غذّاها بما يدور فيه من سجالات، ولا سيما تلك التي تنتقد حضور الإسلام في الفضاء العام، الفضاء الذي يفترض أن يكون محايداً.
وبالإضافة إلى ذلك، نقّب في القرارات القضائيّة التي أصدرتها المحاكم الفرنسية، بمختلف درجاتها، مع فحص تبريراتها المستقاة من فلسفة القانون الوضعي والقيم الجمهوريّة وتوثيقها عبر مئات الإحالات التي ملأت نصف الكتاب. كما أثرى الباحث عرضه بمعطيات غزيرة من العلوم الإنسانيّة (الأنثروبولوجيا وعِلم الاجتماع والتاريخ)، إلى جانب عناصر من الإسلاميات التطبيقية والنصوص الفقهيّة والدينيّة، ممّا أسهم في ربط كلّ مسألة مدروسة بجذورها التاريخيّة، أكانت مشرقاً أو مغرباً.
يتوافق الكاتب مع ما سبق أن خلُص إليه قانونيّون عرب
وخلُص الباحث إلى أنّ ما يحصل بين المنظومتَين القيميتَين هو "تفاعل" معقّد يجري بين التشريعات وأنظمة القضاء وينتهي، في الغالب، باستيعاب الأحكام الإسلاميّة ضمن القانون الفرنسي، لا سيما في ظل عولمة الإجراءات القانونيّة، تبعاً لحركات الهجرة، وما تسبّبه من انخراط مهاجرين من أصول مغاربية أو إفريقية في النسيج الاجتماعي الفرنسي، والذي يقرّ قانونُه بعض التفاصيل الخاصّة، لأنها لا تتعارض جوهريّاً مع روح قوانينها. وهكذا، فالخيط الناظم لهذه الدراسة هو انتقاد التعامل الإعلامي المضلّل الذي يضخّم نقاط الاختلاف، ويجعل منها دليلاً على تخلف منظومة الشريعة القيمية، في حين يُغيّب نقاط الائتلاف قصداً، ويهوّن من شأنها عمداً، حتى تظلّ صورة الشريعة سلبيّة، ويغذّى الموقف الرافض لها، لكونها مصدر تهديدٍ للقيم الإنسانية.
ويمكن لهذا النوع من الدراسات إن عُمّقت أكثر، أن تشكّل نقداً جذريّاً لمفهوم العلمانية والطابع الوضعي الصارم للقانون، إذ روّج الساسة الفرنسيون، منذ فصل الدين عن الدولة سنة 1905، إلى التضارُب الكلي بين المنظومتين داعين إلى ضرورة تحييد أي بُعد ديني من الفضاء العام، بما في ذلك القواعد الخاصّة التي تنظم حياة الأفراد والأسر في هذا البلد. فقد بيّنت هذه الدراسة أنّ التعارض المزعوم سببه التهويل الإعلامي والتوظيف الحزبوي الضيّق اللذين عملا طيلة عقود على إظهار الشريعة في صورة "ممارسات" لا يمكنها أن تتأقلم مع القوانين الوضعية، ناهيك عن أن تندمج في ترسانتها.
عرْضٌ للحُكم الشرعي مع ما يقابله من مواد قانونية فرنسية
هذا ويتوافق ما استعرضه الباحث مع ما سبق أن دلّل عليه رجال قانون عربٍ، لكن في الاتجاه المقابل، وعلى رأسهم قدري باشا وعبد الرزاق السنهوري في موسوعته: "المحيط" من أنّ القوانين الفرنسية لا تتعارض في روحها ولا في مضمونها مع قواعد الشريعة، وبالإمكان تذويب تلك القوانين في الفقه واعتماده مصدراً أساسيّاً لها، كما أثبتوا أنّ الفقه يمكن أن ينحلّ في القوانين الوضعيّة لأنه لا يعارضها، كما بإمكان هذه الأخيرة أن تستوعب بعض الاجتهادات ما دامت لا تشكّل انتهاكاً مباشراً لروح القوانين الفرنسية.
يجدر التذكير بأنّ هذه المواءمة وليدة التطورات الداخلية التي حصلت منذ قرون في أرجاء العالم الإسلامي، وهي ثمار اجتهاد الفقهاء الذين سعوا لجعل الفقه يغطّي مناحي الحياة الاجتماعية كافة للمؤمنين مع اقتراح حلول عمليّة لا تُخالف القواعد العقلية ولا المقاصد الإنسانيّة، وهي المقاصد نفسها التي تهدف إليها فلسفات القانون الحديثة. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما دلالات توقيت هذه الدراسة؟ هل هو البحث عن تهدئة السّاسة الفرنسيين مع صعود الأحزاب الشعبويّة وإقناعهم بأن لا داعي للتشدد في رفض الفقه الإسلامي في فرنسا، لأن جلّ مواده لا تعارض روح قوانينها؟ أم هل هو إقرار، وإن جاء متأخراً، بثراء التراث الفقهي الذي صاغه عُلماء أكفاء كالشافعي وابن حزم وابن رشد، وغيرهم بالمئات، وبما يتضمّنه من تحليلات وتعليلات دقيقة، بل ومن روح مقاصديّة ومقارنة ليس لها أن تخجل أمام نصاعة القوانين الفرنسية وروحيّتها الفسيحة التي أشاد بها مونتسكيو في كتابه.
لم يكن ظهور هذا الكتاب متوقّعاً في مثل هذه الأشهر، فلعلّه "صرخة ضمير" في خضم خطابات الكراهيّة والتضليل حول المسلمين والشريعة التي طالما قُرنت عسفاً بالجهاد والإرهاب، عسى أن يسهم هذا الخطاب، ولو جزئيّاً، في التذكير بسماحة الشريعة الإسلاميّة التي ركّز عليها المفكّرون الإصلاحيون كالشيخين محمد عبده والطاهر ابن عاشور، وفي التنصيص على الفروق بينها كطريقٍ ربّاني وبين الفقه الذي أكّد ابن خلدون أنّ أحكامه "ظنّية"، أي بَشريّة، ولذلك فهي قابلة للتطوير والتأقلم مع مختلف السياقات الثقافيّة التي يحيى فيها الإسلام ديناً وثقافة وانفتاحاً عملاً بالمقصد الكريم: "لِتَعارَفوا".
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس
مشاركة الخبر: ستيفان بابي.. درْسٌ مقارن بين الشريعة والقانون الفرنسي على وسائل التواصل من نيوز فور مي