فيلمان فلسطينيان عن الذات: تعرية فرد بلغة سينمائية
في إطار استعادة أفلامٍ فلسطينية، تعاين أحوال فردٍ وجماعة، في فترات زمنية مختلفة، وأوضاع اجتماعية متفرّقة، تحاول هذه القراءة النقدية أنْ تساهم في نقاشٍ، يُفترض به أنْ يستمر، يتناول الفرد الفلسطيني، في علاقته بذاته أساساً.
الاستعادة غير معنيّة، هنا، بعام الإنتاج، فالمختلف في الفيلمين المختارين دافعٌ إلى تلك الاستعادة، رغم أنّ لمخرجين من دون غيرهم أفلاماً أحدث إنتاجاً.
في النص اللاحق، تقديمٌ لفيلمين، يلتقيان في لحظة تعرية الذات الفردية، لقراءة بعض العام، وفي معاينة سينمائية تمتلك جماليات فنية ودرامية وسردية. النص هذا جزءٌ من بحثٍ أطول لا يزال قيد الإعداد.
أسئلة جمّة يطرحها مخرجون فلسطينيون عديدون: الهوية، المكان الحاضن أو الذي ينتمي المخرج إليه، المدينة، النزاع الخفي ـ العلني بين الفلسطينيين والمحتلّ الإسرائيلي، العلاقات الفلسطينية ـ الفلسطينية.
سؤال المدينة، والعلاقة الفردية بها، والبحث في كيفية العيش اليومي في فضائها المفتوح على الاحتلال، يُشكّل بنية درامية أساسية لـ"ميناء الذاكرة" (فلسطين ـ ألمانيا ـ الولايات المتحدّة الأميركية، 2009) لكمال الجعفري. غير أنّ هناك خيطاً رفيعاً بين الوثائقي والروائي في بنائه الفني، إذْ يبدو أقرب إلى الروائي منه إلى الوثائقي، في سياقه الحكائي، ومفرداته وأدواته السينمائية، مع أنه يُقدّم صورة وثائقية حيّة، مُغلّفة بنَفَس روائي، للحياة اليومية الفلسطينية في حيفا.
في المقابل، يذهب رائد أنضوني، في "صداع" (فلسطين ـ فرنسا ـ سويسرا، 2009)، إلى أبعد من ذلك: أنْ يجعل من فلسطين مكاناً يرتبط بالفرد خارج انتمائه إلى جماعة، ساعياً في الوقت نفسه إلى تبيان تأثير الجماعة وضغطها عليه، وسطوة الاحتلال أيضاً.
الفيلمان مشدودان إلى عصب الفرد في مواجهة كوابيسه وأحلامه، كما في صراعه مع ذاته والآخر؛ ومعقودان على قراءات مختلفة للآنيّ في فلسطين، باستعادة اختبارات سابقة، وتحويلها إلى مواد درامية في قلب الوثائقي، الذي (أي الوثائقي) لم يعد تسجيلاً أو أرشفة أو توثيقاً تقليدياً، بل صنيعاً متكاملاً، يمزج الحوار بمساحة متخيّلة، ويُقدّم معطيات يخدمها المتخيّل في إعادة رسم الصورة العامة.
هذا لا يعني أنّ الفيلمين يجعلان المزيج المذكور أساسياً فيهما. فـ"صداع" مثلاً يظلّ متوازناً في اشتغاله على الذات الفردية، من خلال تحويل الصداع الخاص بالمخرج إلى حالة عامة، بل إلى مدخل أساسي لولوج العالم الفلسطيني، القابع في انكساراته وخيباته ومقاومته. فالفرديّ هنا أكبر من الجماعة، والبحث في أسباب الصداع مردّه رغبة المخرج في فهم الحاصل حوله من تبدّلات، أو من "صداعات" شتّى، تُغرق البلد بكامله في حالة بائسة ومتوترة.
من جهته، يقوم كمال الجعفري برحلة داخلية في أزقّة حيفا، وشوارعها وناسها وأشيائها وتفاصيلها، بإيقاع هادئ يغطّي غلياناً قابلاً للانفجار في أي لحظة؛ حركات بطيئة لأناسٍ يمضون أوقاتهم في ما يشبه التأمّل الصامت بأحوالهم، أو ربما بذواتهم، أو ربما بلا شيء؛ تفعيل الصورة على حساب الكلام والحوار، وتحويل الصورة نفسها إلى مرايا تنعكس عليها التفاصيل كلّها.
ذلك أنّ الجعفري مهمومٌ باللغة السينمائية، وبالمادة المختارة: عائلة تدافع عن حقّها في بيتها التاريخي. شابٌ يقود درّاجة نارية ولا يجد شيئاً يفعله سوى الصراخ عالياً. أناس جالسون في مقهى، أو واقفون على زاوية شارع من دون أدنى حركة. شخصيات بارعة في التقاطها نبضاً (أيكون النبض حيّاً فعلاً، أمْ أنْ الواقع أقسى من هذا وأكثر أذيّة؟) في مدينة وفضاء وأحياء.
اللافت للانتباه في الفيلمين كامنٌ في توافقٍ بينهما، ضمني أو مبطّن، على ترك النهاية مُعلّقة (أو "مفتوحة"، بتعبير نقدي آخر)، وإنْ يسعى المخرجان إلى جعل هذه النهاية مدخلاً إلى إعادة طرح أسئلة ملتبسة ومعقّدة أخرى في النسيج الفلسطيني.
الاشتغال السينمائي في "ميناء الذاكرة" أكثر اقتراباً إلى النَفَس الروائي من "صداع". مع هذا، فالأسئلة المطروحة كلّها دافعٌ جوهري ودائم إلى إعمال العقل والمخيّلة معاً في نقاش مفتوح مع هذا النمط الجديد في صنع الفيلم الوثائقي.
مشاركة الخبر: فيلمان فلسطينيان عن الذات: تعرية فرد بلغة سينمائية على وسائل التواصل من نيوز فور مي