برج غلاطة.. ترميم بانوراما إسطنبول ونقطة أول طيران
تحتفظ الأماكن بذكريات خطى وهمسات من عبروها، ويمكن القول إن ذكريات من حلموا بزيارتها لا تكتمل إلا برؤيتها ومطابقة ما تخيّلوه مع الواقع الذي يشاهدونه أمام أعينهم. شعر من زاروا مدينة إسطنبول التركية خلال الأسابيع الأخيرة بإحساس إجراء زيارة ناقصة أو غير مكتملة بسبب إغلاق برج غلاطة الذي يشهد عملية ترميم. ورافقت هذا الإحساس نزهات من قصدوا منطقة بي أوغلو المكتظة بالأماكن التاريخية والسياحية، مثل ساحة تقسيم وشارع الاستقلال.
يقول مدير شركة "يا شام" السياحية محمود آلتن باش، لـ"العربي الجديد": "تكمل عودة برج غلاطة، بعد استكمال عملية ترميمه، البرنامج السياحي لإسطنبول ونقاط جاذبيتها. ويمتد تاريخ برج غلاطة لأكثر من 1500 سنة، ويرصد من ارتفاع 67 متراً مدينة إسطنبول الكبيرة بمشهد بانورامي فريد، خاصة منطقة الفاتح التاريخية وتقسيم وخليج مرمرة واسكودار وامينينو. أيضاً تخبر قصة مثيرة للاهتمام أن البرج شهد أول محاولة طيران من منطقة بي أوغلو إلى اسكودار في القسم الآسيوي من إسطنبول.
وفي نهاية شباط/ فبراير الماضي أعلنت السلطات التركية إغلاق برج غلاطة الشهير في مدينة إسطنبول لمدة شهر لتنفيذ أعمال ترميم خارجية تهدف أيضاً إلى تدعيمه لمواجهة الزلازل. وأشارت، في بيان نشرته المديرية العامة للتراث الثقافي والمتاحف، إلى أن برج غلاطة سيُغلق أمام الزوار لمدة شهر واحد، كما سيستمر إغلاق الطابق الثامن من البرج أمام الزوار، وهو أمر قائم منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 بسبب تنفيذ أعمال لإصلاح السقف وقمة البرج. وأجريت دراسات جيورادارية على جدار وأرضية المبنى تمهيداً لإصلاح الجزء الخارجي من المبنى بما يتماشى مع التفاصيل المحددة.
وأكدت المديرية العامة للتراث الثقافي والمتاحف الحرص الكامل على الحفاظ على برج غلاطة ومعالمه التاريخية، وأيضاً على نحو 400 من أعشاش الطيور المهاجرة الموجودة في الجدران الرئيسية للبرج، والتي أكدت المديرية أنها "لن تتضرر أبداً، وستأخذ في الاعتبار موسم هجرة الطيور".
ويلفت باش إلى أن برج غلاطة الذي يسمى أيضاً "برج المسيح"، جرى ترميمه مرات بعد الزلازل، لكن أهم عمليات الترميم نفذها خير الدين، وهو أحد تلاميذ المعمار الشهير سنان بعد زلزال عام 1509. وعام 2020، هدمت شركة إنشاءات بعض الأحجار إلى جانب قواعد برج غلاطة، فواجهت عقوبات نتيجة الخوف من احتمال فقدان هذا المعلم الفريد بسبب مشاكل هندسية.
ويعتبر برج غلاطة المشيّد بشكل دائري وسقف مخروطي من أقدم وأجمل الأبراج في إسطنبول، وبُني في العصور الوسطى، وهو موجود شمالي القرن الذهبي ونهاية شارع الاستقلال في حي تقسيم.
يبلغ ارتفاع البرج المؤلف من تسعة طوابق 66.90 متراً، و62.59 متراً من دون الزخرفة في الأعلى، و51.65 متراً من سطح المراقبة، وكان أطول مبنى في مدينة إسطنبول حين شيّد في منطقة ترتفع 61 متراً عن سطح البحر. ويبلغ القطر الخارجي لبرج غلاطة 16.45 متراً، والداخلي 8.95 أمتار، وسماكة الجدران 3.75 أمتار.
ويوجد داخل البرج مصعد كهربائي يسمح بالصعود إلى الطوابق السبعة الأولى، في حين يتطلب الوصول إلى الطابقين الأخيرين الصعود على الأقدام. ويتضمن الطابق الأول معرضاً صغيراً يقدم الهدايا التذكارية التراثية، وتحتوي الطوابق العليا على مطعم ومقهى يطل كل منهما على مدينة إسطنبول ومضيق البوسفور.
ويقدم الطابق الرابع في منتصف برج غلاطة للزوار عرضاً ضوئياً تفاعلياً لتجربة الطيران التي قام بها العالم هزارفن أحمد شلبي. ويظهر مجسّم كبير في الطابق الثامن معالم وتفاصيل مدينة إسطنبول والأماكن التاريخية فيها، أما الطابق التاسع فيتضمن شرفة دائرية تطل على أنحاء إسطنبول ومضيق البوسفور وبحر مرمرة، حيث يمكن أن يلتقط الزوار صوراً تذكارية مع خلفية كاملة لأهم المناطق في إسطنبول.
تتباين الروايات في شأن تاريخ بناء برج غلاطة، الذي ينحصر دوره اليوم في كونه معلماً سياحياً مميزاً، في حين كان قد اضطلع بأدوار عدة، مثل برج للمراقبة العسكرية وسجن خلال حكم الدولة العثمانية. وما يتفق عليه المؤرخون أن البرج موجود منذ العصور الوسطى، وبنيَ بشكله الحالي عام 507 ميلادياً، وذلك على أنقاض برج سابق بُني من الخشب في عهد الإمبراطور البيزنطي أنسطاسيوس عام 70 ميلادياً ليكون أحد أقدم الأبراج في العالم، قبل أن يحترق ويبنى مجدداً عام 507، ثم للمرة الثالثة عام 1832، وللمرة الرابعة عام 1967، حين استقر على وضعه الهندسي الحالي الذي يمزج بين أكثر من طراز وفن معماري في منطقة بي أوغلو ذات المعالم المختلطة في الأصل. تعود هذه المعالم إلى ما قبل الدولة العثمانية بقرون طويلة، وعرفت أيام القسطنطينية بأسماء مختلفة، أبرزها غلاطة وبيرا حيث كانت معقلاً للتجار الإيطاليين تحديداً والأوروبيين عموماً قبل أن يصل العثمانيون إلى القسطنطينية.
وكان الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثامن باليولوج قد أعطى بي أوغلو إلى جمهورية جنوى الإيطالية بعدما دعمته أثناء الحملة الصليبية الرابعة في القرن الثالث عشر، وأصبحت مركزاً للتجارة قبل بناء برج غلاطة فيها بعد نحو قرن.
ولعلّ قصة الطيران من أعلى البرج هي الأكثر جاذبية حتى من تاريخ البرج نفسه ومن تعاقبوا عليه. ويتفنن المرشدون السياحيون في سرد طيران هزفران أحمد شلبي، الذي عاش في القرن السابع عشر، ونفذ أول محاولة للطيران بأجنحة اصطناعية ركّبها بنفسه بعدما استلهم الفكرة والمجازفة من إسماعيل جوهري، الذي عاش في القرن العاشر ميلادياً.
ويروي الأتراك أن هزفران ركّب الأجنحة الاصطناعية عام 1632، ونجح في يوم شهد رياحاً جنوبية - غربية في الطيران من برج غلاطة بالقسم الأوروبي من إسطنبول إلى اسكودار بالقسم الآسيوي، وقطع مسافة 3358 متراً، ما جعله أحد أبرز الشخصيات التركية التي حاولت الطيران.
ويتضمن الطابق الأول للبرج صوراً ومعلومات عن هزفران أحمد شبلي، ويقدم الطابق الرابع عرضاً ضوئياً لتجربة الطيران التي يقول الأتراك إن السلطان مراد الرابع أعجب بها فكافأ هزفران بمنحه كيس ذهب، قبل أن ينفيه إلى الجزائر لسبب مجهول ويتوفى عام 1640، علماً أن البعض يفسّرون ذلك بأن مصير أصحاب الأفكار المختلفة حينها كان القتل أو الموت بعيداً عن أوطانهم.
مشاركة الخبر: برج غلاطة.. ترميم بانوراما إسطنبول ونقطة أول طيران على وسائل التواصل من نيوز فور مي