رحيل بول أوستر.. رواية السيرة والبحث عن هوية
رحل الروائي وكاتب السيناريو الأميركي بول أوستر (1947-2024) أمس الثلاثاء، في شقته في حيّ بروكلين بنيويورك، متأثراً بمضاعفات ناجمة عن سرطان الرئة، بحسب ما أكدته الصحافية والكاتبة جاكي لايدن نيابة عن عائلته.
لطالما شكّلت سيرته الذاتية مصدراً أساسياً للعديد من الأعمال الروائية التي ألّفها أحد أبرز الكتّاب الأميركيين في مرحلة ما بعد الحداثة، ويلعب القدر والمصادفات دورهما بشكل متكرر في كتاباته وحياته أيضاً، وكثيراً ما أشار إليها في أحاديثه الصحافية، حيث شهد موت أحد زملائه في صاعق برق خلال معسكر صيفي التحق به في سن الرابعة عشرة.
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة التي تركت أثرها في رواياته، فجدّه قُتل على يد جدته التي لم تحاكم بسبب تقدير أوضاعها النفسية، وظلّ الأمر سرّاً في العائلة إلى أن علم عنه أوستر من أحد الغرباء الذي كان جاراً لعائلته، لتهيمن ثيمة مواجهة غير المتوقع في عدد من أعماله. غير أن الأحداث الأخيرة في حياته حملت بعداً تراجيدياً بعد أن فقد ابنه دانيال عام 2022 بسبب جرعة مخدرات زائدة، لتتبين لاحقاً مسؤوليته عن التسبب بوفاة طفلته الرضيعة بجرعة مخدرات أيضاً.
يلعب القدر والمصادفات دورهما بشكل متكرر في كتاباته وحياته أيضاً
أوستر الذي بدأ مشواره بكتابة الشعر من خلال مجموعة أصدرها عام 1974 بعنوان "كشف" أتبعها بمجموعات أخرى حتى بداية الثمانينيات، قبل أن يتوجّه إلى الرواية التي قدّمته إلى جمهور أوسع، مكتفياً بإصدار منتخبات من قصائده في مرحلة لاحقة.
كانت نقطة التحوّل مع كتابه "اختراع العزلة" (1982) الذي كشف فيه تفاصيل خفية من حياة عائلته، التي اتهمه بعض أفرادها باختلاق أحداث من مخيلته، بينما اعتبرها أوستر مواجهة مع الحقيقة ليعيد الكرةّ في رواية "تباريح عيش" (1996) التي تضمّنت وقائع عاشها في شبابه معظمها تتصل بعلاقته مع المال، ونظرته إلى العوز والحاجة، وانعكاس ذلك على طريقة إنفاقه في ما بعد.
حظي أوستر بشهرة وانتشار واسعين مع صدور "ثلاثة نيويورك" في الثمانينيات، وضمت روايات: "مدينة من زجاج" (1985) و"أشباح" و"الغرفة المقفلة" (1986)، والتي تستكشف موضوعات فلسفية مختلفة مثل الهويات الصادمة للمجتمع ووعي الذات والعلاقة مع الآخر بأسلوب بوليسي يعتمد الغموض.
لم يمتلك الجرأة في نقد جرئم الاحتلال الإسرئيلي، وساوى بين الجلأد ولضحية
اضطرابات العائلة والنظرة المركبة لمدينة نيويورك وهوية المجتمع بشكل عام، شغلت بال الروائي الأميركي الذي ولد لأبوين من الطبقة المتوسطة من أصول نمساوية يهودية، ونال درجتي البكالوريوس والماجستير في الأدب المقارن من "جامعة كولومبيا" عام 1970، وبعد تخرجه انتقل إلى باريس ليعمل في الترجمة لسنوات عدّة قبل أن يعود إلى الولايات المتحدة سنة 1974.
ويلفت إلى انتمائه إلى جيل محبط في مقابلة أجريت معه عام 1992، ويقول إن روايته "لوياثان" تدور حول شخصية تشبهه إلى حد كبير: "شخص مملوء بنوع من الأمل المثالي حول ما يمكن القيام به بشأن مستقبل البلاد والعالم، والذي رأى كل هذه الأحلام تفكك شيئاً فشيئاً بفعل الأحداث السياسية اللاحقة".
إلى جانب الرواية، كتب أوستر سينريوهات العديد من الأفلام منها مقتبس عن رواياته مثل "في بلاد الأشياء الأخيرة"، و"موسيقى الصدفة"، كما أخرج بنفسه أفلام "لولو على الجسر"، و"الحياة الداخلية لمارتن فروست"، و"أزرق في الوجه".
رغم أن بول أوستر انتقد سياسات "إسرائيل" -التي زارها- وبنيتها الدينية في أكثر من مرة، إلا أن مراسلاته مع الروائي الجنوب أفريقي جي. إم. كويتزي التي نُشرت في كتاب "هنا الآن"، تشير إلى مواقف ملتبسة تحمل الشفقة والتعاطف معها وتساوي بين الضحية والجلّاد، دون جرأة وشجاعة في الاعتراف بحقيقة أن الاحتلال الصهيوني ارتكب جرائم إبادة وفصل عنصري لا تغتفر كما يرى كويتزي، حيث يقول "إن دمار إسرائيل سوف يتسبّب في ألم لا براء منه لكل شخص تقريباً على وجه الأرض. حرب عالمية ثالثة، أعداد لا حصر لها من الموتى، كارثة تستعصي على التصوّر".
مشاركة الخبر: رحيل بول أوستر.. رواية السيرة والبحث عن هوية على وسائل التواصل من نيوز فور مي