الوجود أسبق من الماهية.. خلاصة الفلسفة الوجودية
رسالة الماجستير التي لم أتمكن من نشرها في العالم العربي بسبب غياب الحرية الفكرية
(الحرية؛ تلك الكلمة المكتوبة على مركبة العواصف) كامو
ربما لا أحد يعلم من اصدقائي وصديقاتي في هذا الفضاء الافتراضي أنني حتى الآن لم اتمكن من نشر رسالتي في الماجستير الموسومة بـ (الوجود والماهية في فلسفة جان بول سارتر) بإشراف الأستاذ الدكتور أحمد نسيم برقاوي، مؤسس ورئيس بيت الفلسفة بالفجيرة وأستاذ الفلسفة ورئيس قسمها الأسبق بجامعة دمشق ونائب رئيس الاتحاد الفلسفي العربي ورئيس مركز المستقبل العربي وأستاذ الفلسفة والفكر العربي الحديث في الدراسات. اعددتها بتحفيز من محاضرته حينما كان استاذا زائرا في قسم الفلسفة بجامعة عدن عام 1992م إذ يعد من أفضل الأكاديميين العرب في العلوم الإنسانية والاجتماعية الذين عملوا في مؤسستنا الأكاديمية الفتية ( جامعة عدن ) جنبًا إلى جنب مع أستاذنا العزيز الدكتور نمير مهدي العاني، والدكتور طيب تيزيني، والأستاذ جيلي عبدالرحمن، والأستاذ مبارك خليفة، والأساتذة الإجلاء عبدالرزاق عيد وخضر زكريا وعبدالشافي صديق وعبدالسلام نور الدين وحامد خليل، وغيرهم من الأساتذة العرب الذين عملوا في جامعتنا على مدى سنوات قبل حرب 1994 التي قصمت ظهر البعير! وبسببها -اقصد الحرب اللعينة- تم تأخير نقاش رسالتي للماجستير لمدة عامين مع الزملاء والزملاء بوصفنا الدفعة الثانية في البرنامج بعد دفعة المعيدين والمدرسيين في القسم. على مدى عام كامل من السنة التحضيرية بالماجستير للعام الأكاديمي 1991-1992م وكان يفترض مناقشة الرسالة بعد عام أو عامين لكن أزمة الوحدة اليمنية أفسدت البرامج الأكاديمية، إذ اضطر الاستاذة العرب إلى مغادرة عدن قبيل اندلاع المعركة مما اضطرنا السفر إلى دمشق لمقابلة المشرفين ذهبت برفقة الزملاء توفيق مجاهد وعبده بن بدر وصالح مدشل لمقابلة المشرفين العلمين في جامعة دمشق. أنا وتوفيق مشرفنا الدكتور أحمد وعبده بن بدر مشرفه حامد خليل وصلاح مدشل مشرفه الطيب تيزيني.كنت قد كتبت فصلين برسالة الماجستير سلمتها للدكتور أحمد في مكتبه الرحيب بكلية الآداب، جامعة دمشق في ديسمبر 1993م إذا لم تخني الذاكرة!.
أتدرون ماذا قال لي بعد قرأتها قال: (قاسم تحرر مني وكن ذاتك فقط! ذلك الموقف وتلك العبارة البالغة الدلالات تعلمت منهما ما لم أتعلمه من الكتب التي قرأتها.وهو بذلك يقف على الطرف النقيض من الأكاديميين المدرسيين التقليدين الذين يجبرون طلابهم اتباعهم واحتذاء نصوصهم حذو النعل بالنعل! كانت محاضرات الدكتور أحمد برقاوي لحظة عصف ذهني فلسفي سقراطي لم أتعرض لمثلها بحياتي. إذ أكملت السنة التحضرية وقد تغيير كل شيء في قناعاتي على نحو جذري، فضلًا عن إحساسي بمشاعر إيجابية في النظر إلى الكون والحياة والتاريخ والمجتمع والذات. كانت جرعة المعرفة البرقاوية أشبه بقدح زناد الذهن والروح. كانت لحظة معرفية قصيرة لكنها بالقياس إلى كل ما كنت قد تعلمته طوال المراحل الدراسية السابقة تعد الأجود والأجمل والأفيد. بعد إكمال السنة التحضيرية في الماجستير، حرصت على أن يكون الاستاذ أحمد برقاوي هو مشرفي العلمي على الرسالة. وسعدت بموافقته بالإشراف. إذ كان أكثر الأستاذة الذين تعلمنا على أيديهم استيعابًا لتاريخ الفلسفة ومناهجها ويدهشنا بقدراته النقدية في القبض على المفاهيم الفلسفية المعقدة وفض بنياتها المغلقة باحترافية أكاديمية فلسفية عالية الجودة والرصانة. وكانت استراتيجيته في قراءة النصوص الفلسفية تنطلق من منهج الوعي الانعكاسي المزدوج؛ امتلك النص المراد نقده أولا وتمثل حالة الفيلسوف الذي أنتجه وسياقه بوعي عميق وإحاطة كاملة بالمفهوم وتحولاته وسياقات المعنى وفي لحظة ثانية يشرع بنقده وتفنيده بمنطق جدلي عقلاني شديد الإقناع والفهم. وهو بالفعل من أيقظني من سبأتي الدجمائي. إذ كنت قبل التقيه مأخوذًا بسحر الأيديولوجيا الماركسية في نسختها اللينينة البرجنيفية المتخشبة. وربما كان عرضه الرائع للفلسفة الوجودية هو الذي حفزني للبحث في وجودية جان بول سارتر وهو أهم فيلسوف وجودي إذ فتّح ذهني على وقعنا الذي يحيط به الموت والتهديد والضياع من كل الجهات. كنت حينما استمع اليه وهو يتحدث قلق الوجود والحرية والأخيار في الفلسفة الوجودية اسرح بخيالي في عالم شديد التهديد والخوف الوجودي مما يجعلني اعيش الوجودية بكل تفاصيلها. كان وقع حياتنا وجوديا بامتياز فالموت يحوم فوق رؤوس الجميع منذ أن عرفت نفسي في هذه الدنيا شهدت عشرات الحروب (حرب التحرير من الاستعمار البريطاني حتى عام 1967، وحرب الخطوة التصحيحة 1970، وحرب الجنوب والشمال 1972، والحرب الرفاق واغتيال رئيس الجمهورية سالمين وحرب الجنوب مع الشمال عام 1978م والحرب الكارثية في يناير 1986م، إذ كنت حينها في سنة ثانية فلسفة. وما تلاها من حروب لا تعدى ولا تحصى مازلت متقدة حتى اللحظة. ما علينا.. يهمني هنا أن أخبركم بأنني رسالتي في الماجستير التي نوقشت في قاعة مغلقة بتاريخ 25 مايو 1995م بكلية الآداب بجامعة عدن قد مضى عليها قرابة ثلاثين عامًا ولم أتمكن من طباعتها في كتاب رغم أنها حازت على تقييم ممتاز جدًا من لجنة المناقشة، التي ترأسها الأستاذ الدكتور طيب تيزيني بحضور المشرف العلمي الدكتور أحمد نسيم برقاوي والمناقش الأستاذ الدكتورعلوي عمر مبلغ وتوصية بالطباعة على حساب الجامعة. لكن كانت الرياح اليديولوجية المتطرفة التي هبت منذ سقوط عدن عام 1994م مرعبة جدًا، ما جعلني أتعامل مع تلك الحزمة من الأوراق (220 صفحة ) بحذر وحرص وسرية ذكرتني بموقف الفيلسوف باروخ إسبينوزا مع كتابه الأخلاق والدين. ثمة سلطة قمعية يمكنك فهمها بدون أن تنصدم معها هي التي تقول ولا تتكلم ! بحسب فوكو كانت المفاهيم الوجودية والأفكار الفلسفية المجردة المكتوبة في رسالتي تجعل أي ناشر يعتذرعن نشرها بمجرد ما يقرأ عنوانها (الوجود والماهية في فلسفة سارتر) وقد أخبرني الصديقي المرحوم علي درويش، كان مديرًا في قسم الدراسات والنشر بجامعة عدن رحمة الله عليه قائلًا: بعد إن قدمته له لكي يساعدني في نشرها إذ وجدت اليوم التالي وهو يحمله في حقيبة وقد أحكم إغلاقها خوفًا من أن يراها أحد قائلًا ” يستحيل نشرها في الواقع العربي” وطوال تلك السنوات وأنا أحاول تعديلها لعلى وعسى يمكنني نشرها.
قلبتها على كل وجه عدت فقرات وعنوانين وفصول وغيرت العنوان الرئيس إلى قلق الوجود والحرية عند الإنسان المعاصر ولم أفلح في جعلها تتوائم مع الأرهاب الفكري المخيم على الوطني العربي من البحر إلى البحر للأسف الشديد.
The post الوجود أسبق من الماهية.. خلاصة الفلسفة الوجودية appeared first on بيس هورايزونس.
مشاركة الخبر: الوجود أسبق من الماهية.. خلاصة الفلسفة الوجودية على وسائل التواصل من نيوز فور مي