أفلامُ نساءٍ في "مهرجان تطوان" (1/ 2): لقطات تُنتج مشاعر وصُوراً
لا تتعلّق قوّة الأفلام بما نراه على الشاشة فقط، لكنْ أساساً بقدرة اللقطات على إنتاج مشاعر عميقة، أو خلق صُور واضحة في عقولنا، تمسّ قلوبنا أيضاً. مثلاً: تدور أحداث "القرن" (2023) في بداية سبعينيات القرن الـ20، لكنّه يستحضر قضية آنيّة، تعانيها النساء: الحقّ في الإجهاض. فيه، تُقدّم خايوني كَمْبوردا، مخرجته ومؤلّفته الإسبانية، لقطات سينمائية متعدّدة الطبقات، ومَشاهد بصرية فيها حمولات رمزية تثير ميراثاً ثقيلاً لقهر المرأة، فبعضها شديد العذوبة والرقة، وبعضها الآخر شديد القسوة والوحشية، بكشفه جمالاً وألماً كونياً تعيشه المرأة في ظلّ النظام الفاشي لفرانكو.
يبدأ الفيلم (إنتاج مشترك بين إسبانيا والبرتغال وبلجيكا) بمشهد ولادة شديد الحيوية ومختلف، فيه امرأتان وطفل وليد. ابتعدت كَمْبوردا عن الصراخ الهستيري، وركّزت على الجسد الأنثوي، كأنّه حيواني جداً. كأنّ ما يهمّها كامنٌ في الجوانب الجسدية أكثر من النفسية. كأنّها تريد أنْ نرى تلك المرأة كيف تتواصل مع جسدها، ثم تتجاوزه. هنا، تقول المرأة لرفيقتها، التي ساعدتها في المخاض: "عارٌ أنْ تكوني بهذه الحيوية، ولا يكون لديك أطفال". ترمقها ماريا إثر تلك الكلمات الجارحة. لاحقاً، تنكشف الحكاية، كما سرّ القرار الصارم.
ماريا ناضجة وقوية وأبيّة، تحمل شخصيتها غموضاً وانطلاقاً. تمتلك روح فنانة (أداء بارع لجانيت نوفاس). كي تحافظ على حريتها، تُجهِض نفسها لئلا تتعرّض للعقاب، في زمن لم يكن الإجهاض فيه قانونياً. يظهر هذا في جرح في البطن، يسألها عنه طفل عند اغتسالها وسط النساء، ثم اعتراف مقتضب لاحقاً. إنّها تساعد النساء الأخريات في الولادة، وفي الإجهاض سرّاً. قبل وقتٍ، تأتيها مُراهِقةٌ، كادت تشترك في الأولمبياد، تُلحّ عليها لمساعدتها في الإجهاض. عند الفجر، تموت الفتاة، ويجدون خمسة قرون في نزيفها، إذْ كانت تستخدم فطر "قرن الجاودار" في الإجهاض. هكذا، تُتّهم ماريا، فتبدأ رحلة الهروب والمخاطرة بحياتها، ومعها تتوسّع رؤية أحوال نساء أخريات، والقهر الذي يتعرّضن له، والإذلال من أجل لقمة العيش في مدن أخرى.
مع ذلك، تُقرّر ماريا تحقيق حلم الأمومة. المُدهش في الفيلم مفارقة أنّها، عندما كان لها بيتٌ مريحٌ تتوفّر فيه كافة الإمكانيات، لم تكن قادرة على ذلك بسبب الخوف. وعند هروبها، لم تعد تمتلك مأوى، وكانت تعمل بأجر يومي بخس، لكنّها أصبحت في مكان لا يعرفها فيه أحد، فابتكرت لنفسها شخصية جديدة، واحتفظت بالحلم والجنين في نطاق آمن.
مضمون "القرن" قوي، إذ اهتمّت مخرجته كثيراً بالتفاصيل: الحوار والإضاءة والملابس وأماكن التصوير، وإيماءات أبطالها في فريق التمثيل. النسيج السينمائي شاعريّ: شروق الشمس فوق الغابة، حقول القمح، همس الناس وأحاديثهم على الأطراف، عجول تسبح في النهر مع أمّهاتها، نساء يُغنّين تهويدات ويقطفن التوت الأسود أو يجمعن المحار، الرحلة المؤلمة للهروب من القانون، لكنّها شديدة الشاعرية، إذْ أكّدت وضعاً مُعقّداً تعيشه النساء، وقدرتهن على التضامن سرّاً، للإفلات من المصير المظلم، والبقاء على قيد الحياة.
"القرن"، المشارك في الدورة الـ27 (29 إبريل/نيسان ـ 4 مايو/أيار 2024) لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط"، أكّد ـ بمضمونه وتوقيع مخرجته ـ الحظّ الوافر للنساء، في مهرجان يُكنّ احتراماً كبيراً لأفلام المرأة. فمن 12 فيلماً في مسابقة الأفلام الطويلة، هناك ستة تناقش قضايا المرأة وشؤونها، لسبع مخرجات. في قسم "خفقة قلب"، هناك ثلاث مخرجات، وخمسة أفلام عن النساء من أصل ستة.
إضافة إلى تكريم ممثلتين شابتين، التركية فيلدان أتاسيفير، وتكريمها مؤجّلٌ منذ العام الماضي بسبب زلزال تركيا، التي كشفت في ندوة تكريمها عن شخصية تتمتّع بوعي ثقافي، وعن أنّها قارئة نهمة للأدب العربي والأوروبي وأدب أميركا اللاتينية. علاقتها بالأدب والقراءة رشّحتها لتكون عضوة في لجنة انتقاء السيناريوهات، التي تُشكّلها وزارة الثقافة التركية لتشجيع المخرجين الشباب. والإيطالية إيزابيلا راغونيسي (إنّها مخرجة أيضاً)، التي تُعدّ إحدى أهم ممثلات السينما الإيطالية المعاصرة، والتي لها وثائقيّ بعنوان "روزا.. نشيد الحوريات"، عن أعظم مغنّية عرفتها صقلية إطلاقاً، وهذا أول إخراج لها، عُرض بمناسبة تكريمها في "مهرجان تطوان".
مشاركة الخبر: أفلامُ نساءٍ في "مهرجان تطوان" (1/ 2): لقطات تُنتج مشاعر وصُوراً على وسائل التواصل من نيوز فور مي