برع حرازي
البرع رقصة حربية مهيبة في اليمن، هكذا أراها: مبارزة لإظهار جاهزية ذكورية في القفز والمناورة بنمطٍ دائري تتكرر فيه الحركات الهجومية المتبادلة التي لا تخلو من ايحاءات رمزية بصراع خفي، لكنه صراع مخلوط بهالات من النشوة والجذبة والبهجة التي تسري في أوساط الراقصين والمتفرجين معًا، فيما تستمر حركات الراقصين في تكرار متوالياتها مدفوعة بالشره الذي تتسابق فيه العضلات لإبراز الانفعالات التي تشعلها إيقاعات الطبول الفخمة وتلك التي تقرع بصوت حاد وتسمى (الطاسة)، بينما يبارز الراقصون الهواء بنصال الجنابي ويظلون يلوحون بها في ذروة كل حركة بإشارات خاطفة تفقأ عين اللحظة.
ولكل منطقة في اليمن لون مختلف من البرع، أشهرها الحارثية والهمدانية والحاشدية واليافعية والصعدية والبيضانية والحرازية والحيمية، ولا أعرف أسماء أخرى لرقصة البرع غير ما ذكرت، وتسمى كذلك نسبة إلى قبائل ومناطق بني الحارث وهمدان وحاشد ويافع وصعدة والبيضاء والحيمة وحراز.
ولطالما أسرتني إيقاعات البرع منذ طفولتي واجتهدت في التفريق بين (برع) كل منطقة، رغم أنني لا أجيد هذا النوع من الرقص بأي لون، حتى لون المنطقة التي أنتمي لها بالولادة (الحيمة).
في البداية وعيت إيقاعات البرع في بعض قرى الحيمة الخارجية بفضل الأعراس التي لا يتخلف عنها الكبار والصغار، ثم كان للتليفزيون المحلي دور في نقل إيقاعات أخرى إلى مسمعي. وبعدها انتقلت وأنا في سن الـ 13 في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي إلى العاصمة صنعاء، وسكنت في حي نقم، وهو حي تقطنه أغلبية سكانية من منطقة حراز، بينما تنشط محالهم التجارية في شارع باب السلام الذي يمتد من باب اليمن أشهر أبواب صنعاء، إلى الشارع الذي يقع فيه مستشفى الثورة.
لم تكن تعنيني تجارتهم ولا مذهبهم سواء قبل أو بعد أن عرفت أنهم من الطائفة الإسماعيلية، فقد كان اهتمامي ينصب على إيقاع البرعة الحرازية التي وجدتها مختلفة ومميزة، وبدت لي البطولة فيها لصالح عازف الطبول، خلافًا لما يبدو في رقصات البرع في المناطق الأخرى حيث يستأثر عازف الطاسة بالأضواء ويليه من في حلقة البرع بينما الطبال يؤدي حركته الرتيبة بضرب طبل واحد امامه بعصا غليظة ليؤدي صوت الـ (دوم دوم دوم).
أما في رقصة برع حراز فقد كان دور الطبل مزدوجًا، حيث يجلس شخص أمام طبلين معًا وبعصاتين في يديه يضرب على الطبلين ضربات مزدوجة فيها شيء من التركيب الإيقاعي، وعلى هذه الخلفية الإيقاعية المعقدة يأتي عازف الطاسة ليلعب بدوره لعبته بإيقاعات يتخلل صمتها الرفيع صوت الطبلين.
هكذا استحوذت أعراس أهل حراز في حي نقم بالعاصمة صنعاء على اهتمامي الحاد ما بين النصف الثاني من الثمانينيات وحتى أوائل التسعينيات بسبب إيقاعات رقصة البرع الاستثنائية التي تخصهم.
في تلك السن التي تقع ما بين الطفولة والمراهقة أتيح لي حضور أعراسهم واللعب مع أقراني من أولادهم، كما كانت البيوت مفتوحة والزيارات العائلية متبادلة ولا تحتاج إلى مناسبات، وكنت أسكن آنذاك في منزل خالي الذي كانت صلته بأهل حراز في الحي ولا تزال متينة، بحكم الجوار أولاً ولاحقًا بحكم عمله مع أحد التجار، كما أن الطباع بيننا متشابهة واللهجة واحدة مع استثناءات بسيطة في طريقة نطق بعض الكلمات. إلا أن إيقاعات البرع الحرازي كانت تختلف عن كل الإيقاعات التي سمعتها.
واليوم عندما وجدت مقطع فيديو للبرعة الحرازية تذكرت إيقاعاتها الفريدة.
سألني قبل فترة صديق ما الأصل في إجادة العزف على العود أو أية آلة موسيقية بالسماع ومن دون دراسة أكاديمية، فأجبت أن الأصل والسر يكمن في الإحساس بالإيقاع أولاً.
The post برع حرازي appeared first on بيس هورايزونس.
مشاركة الخبر: برع حرازي على وسائل التواصل من نيوز فور مي