يقظة الأدب
لم تعُد محاكَمة الأعمال الأدبية مقتصرةً على الصحافة الثقافية ولا على النقّاد وحدهم، بعدما باتت تُحقّق حضوراً لافتاً في الجدل الثقافي، لم ينحصر بالجامعات التي بدأ فيها، حيث تعرّضت إلى ما يزيد على النقد نحو إعادة النظر في تدريسها، واللافت أنّها تستهدف الكلاسيكيات، وتوجّه إليها الاتهامات.
لن نقرأ أعمال شكسبير ومارلو أو غوته وفيلدينغ وديكنز... حسبما كُتبت، بل سنتعرّف إليها من جديد، وقد تُطاول الاتهامات الكتب المقدَّسة أيضاً. الأوضح أنّ الكتاب الأصل لن يعبُر إلى زماننا إلّا بعدما يطاوله التصحيح على الأقلّ، سيطرأ عليه القليل أو الكثير من التعديلات انسجاماً مع عصرنا، باعتباره عصراً مثالياً، لا يصحّ فيه تمرير ما يُسيء إلى ما استقرّ عليه من فضائل ومفاهيم.
الإدانة جاهزة، بل محسومة، والمنع أو ما يشابه المنع، وأحياناً الاستبعاد من قاعات ومدرّجات الجامعات، حتى لو كانت مجلّدات كتبهم على رفوف المكتبات. ما يجري بشكل أقرب إلى الدقّة: حرّاس الأدب النائمون طوال قرون استيقظوا أخيراً.
حرّاس الأدب النائمون طوال قرون استيقظوا أخيراً
بات الأدب في حالة من الدفاع عن النفس ضدّ أقرب المقرّبين إليه، في الجامعة التي تُعتبر الحاضنة الأساسية له، ومَوطن الاعتراف به، التي تكفل له البقاء. مُدرّسو الأدب يشنّون حملةً على شكسبير أهمِّ شخصية أدبية تُمثّل الأدب الكلاسيكي وتضعه في قفص الاتهام. لم يكن كبش الفداء إلّا لأنّ أعماله المسرحية مقرَّرة في دراسة الأدب الإنكليزي، وتُمثَّل على مدار العام في أنحاء العالم. ويُعاد طبعُها باستمرار، وتُكتب الدراسات حولها، لكن بالنسبة إلى دعاة المصادرة، بات حضوره في الأدب والمسرح والسينما يُشكّل خطراً لا بدّ من وضع حدّ له.
بدأت الحملة في قاعات الجامعات، وانتقلت إلى الصحافة ووسائل التواصل، وأصبحنا إزاء حركة اعتُبرت أنّها تُمثّل يقظة الأدب، ما يُبشّر بانتهاء الكلاسيكيات، وإذا بقي منها شيء، فمجرّد صوت من أصوات كثيرة، وليس باعتبارها، تلقائياً، السلطة النهائية، أو المصدر الذي يُقصَد للنهل منه، أو المثال الأكبر لعظمة الأدب. بمعنى أوضح، لقد فقدت الكلاسيكيات مركزيتها، لعدم اتصالها بمفاهيم عصرنا. إنّها غريبة عن الواقع ومضادّة له.
استهدفت الحركةُ شكسبير بإزاحته عن عرشه، والامتناع عن تدريسه، والاستعاضة ببدائل حديثة، بحجّة أنّ أعماله مليئة بالأفكار الإشكالية التي عفا عليها الزمن، تنضح بالكراهية والعنصرية ورهاب المثلية والطبقية ومعاداة السامية والتعصّب وكراهية النساء، خصوصا النساء السوداوات... حركة يقودها معلّمون وباحثون يتحدّون مكانة شكسبير المكرَّسة، فاستُبدلت "روميو وجولييت" بروايات صادرة قبل بضعة عقود، أو قبل سنوات، يفصلها عن شكسبير ما يزيد عن أربعة قرون، بحجّة أنّ الطلّاب سيتمكّنون من إقامة روابط واقعية بين ما يدرسونه والحياة من حولهم، من خلال تسليط الضوء على انغماس مسرحياته في خطابات عنصرية، طاولت شايلوك اليهودي في مسرحية "تاجر البندقية" الذي اعتُبر تناوُل شخصيته كمرابٍ جشع مضادّاً للسامية، ولم تسلم غيرة عطيل القائد الأسود، ولا جنون الملك لير، وغيرها لاعتمادها ثيمات لم تعُد صالحةً لهذا العصر. وكشفوا كيف استعمل الاستعمار البريطاني الشاعر العظيم كأداة استعمارية ثقافية، تحت غطائه مورس التمييز ضدّ البلدان المستعمَرة، وكأنّنا أمام حالة يصحّ أن يُطلق عليها "رهاب شكسبير"، ما يعني حان الوقت للتخلّص منه.
بالمقابل، لم يُخفِ الردّ عليهم الكثير من الحدّة، ومن مختلف الجهات، بدعوى ما الضرورة في إسكات التاريخ الأدبي على هذا النحو الهمجي لتحلّ محلّه روايات معاصرة من الدرجة الثانية؟ واتُّهمت المدارس التي تتخلّى عن الكاتب بأنّها "ترمي الأدب العظيم في البالوعة". أمّا الرد الذي يعني الناس العاديّين، فصدر من نساء: "إذا كان لدينا أطفال، فسوف نقوم بتعليمهم في المنزل حتى لا يتعرّضوا لهذا الهراء الخالص".
امتدّ الجدال الساخن حول هذه الظاهرة من الولايات المتّحدة إلى أوروبا. وأصبح في الأعوام الأخيرة الحديثُ عن "ثقافة الإلغاء" معمولاً به، بحجّة أنّ منع انتقاد كبار الكلاسيكيّين يُشكّل تهديداً كبيراً لحرية التعبير والحرية الأكاديمية، خاصّةً أنّه لم تعُد لديهم القدرة على الصمود في الجدالات الثقافية، وكأنّ الصمود أو عدم الصمود يجب أن ينتهي بغلبة فريق على فريق، وليس وضع الآثار الأدبية على مائدة الدراسة والبحث.
عموماً، هذا النقاش مستمرّ وهو محاولات يصعب أن تُطيح بالأدب الكلاسيكي لمجرّد أنّه لا يتلاءم مع العصر، ولا يمكن اعتمادها لتُشكّل ذريعة للإلغاء. إنّ اعتماد ذخيرة للأدب لا يعني تكديس كتب ولا استبدالها بأُخرى، إنّها سجلّ لمسيرة البشر؛ سواء كانت تتطابق أو لا تتطابق مع مفاهيم عصرنا. إنّ تاريخ الأدب يعكس مسيرة الإنسان بكلّ ما فيها من عظمة وأخطاء وسقطات وربّما جرائم... وإلّا لماذا الأدب، إن لم يكن الإنسان كما هو، ليس في حياة واحدة وإنما حيوات، وليس في عصر، بل عصور؟
بجب ألّا نخشى من إدراك أنّ الأدب لا محالة يأخذ أشكال الحياة التي نعيشها. إذا كان هذا صحيحاً فلا يجوز التعدّي على الأدب العظيم، تحت أيّ سبب. إنّ الكلاسيكيات، باعتبارها أحد أصوات الأدب الراسخة، لم تعتمد إلّا لأنّها أثبتت عظمتها عبر الزمن، فلا مبرّر لكتم أصواتها، وإنّما إمكانية ضمّ أصوات إليها، وقد تلتحق بالكلاسيكيات، وإلّا فكلّ يقظة تُلغي ما قبلها.
* روائي من سورية
مشاركة الخبر: يقظة الأدب على وسائل التواصل من نيوز فور مي