من يقدر أن يكون أوليس في زمننا؟
ما هذا الذي يحدث؟ وأيّ عالَم هو هذا الذي نعيش فيه؟ عواصف الحيرة والضياع والارتباك تقتلع كلَّ شيء، تعصف بقوّة متزايدة، وأغاني الحوريات الجديدة، حوريات التكنولوجيا الذكيّة، تصدح عالياً وتُهدّد بالهذيان.
في أوديسة هوميروس، إحدى الملاحم المؤسِّسة للثقافة الغربية، يعبُر أوليس مع طاقمه في شرك "عرائس البحر"؛ تلك المخلوقات التي تغنّي بصوت مُغرٍ إلى درجة أنّها تدفع من يسمعها إلى التخلّي عن كلّ شيء والبقاء معهنّ بقيّة العمر. صوت الحوريات مُغرٍ وجميل بشكل لا يُحتمل، والاستماع إليهن يعني أن تتحطّم السفينة، وبالتالي الضياع إلى الأبد. لتجنّب ذلك، يغطّي البحّارة آذانهم بالشمع. أمّا أوليس، فلا يفعل ذلك، لأنّه يريد أن يسمعهن. وكي لا يضيع، يطلب من طاقمه أن يربطه بسارية السفينة حتى لا ينجرّ نحو الهلاك.
اليوم تغنّي حوريات التكنولوجيا الجديدة عالياً، والجميع يريد أن يسمع صوتهنّ دون أن يربط نفسه بأيّ سارية، راكضاً نحو الضياع. إنّه الصوتُ المتجسّد بالواقع الافتراضي وخوادم القوّة السيبرانية: مراكز البيانات المزوّدة بأجهزة حواسب قوية جدّاً، ومتطوّرة بشكل لا يوصف، في مرافق هائلة ومخفية نسبياً، حيث تُسجّل معلومات كلّ إنسان متّصل على الإنترنت، ليل نهار، في أيّ وقت، ومن أيّ مكان، ومهما كان الجهاز الذي يتّصل منه، حيث تقوم هذه "السيرفرات" بحفظ بياناته المرتبطة في أرشيفات ضخمة وخاصّة بكلّ واحد منّا.
ما زالت حوريات الأوديسة الجديدة تُغنّي، وهي في شكلها اللاإنساني اليوم، أي الرقمي، أكثر خطورةً وإغراءً منه في شكلها الإنساني الجميل الذي جاءت عليه في الملحمة اليونانية. وفي عصرنا الراهن، عصر التقدّم التكنولوجي، حيث كلّ شيء يبدو افتراضياً، حتّى الواقع نفسه، صار القسم الأكبر من البشر "أوتومانات" متحرّكة: آليات ذاتية التشغيل على غرار الروبوتات. وبينما صارت مرحلة أنسنة الروباتات وراء ظهرنا، تتسارع الخطى الآن نحو تحويل من تبقّى من البشر إلى روبوتات.
في عصر التكنولوجيا صار القسم الأكبر من البشر "أوتومانات" متحرّكة
أيّها البحّار، إنّ الصوت الأوّل الذي يجب أن تستمع إليه هو ذلك الموجود في أعماقك، صوت الشرر الداخلي، ضوء الوعي الذي تحاول حوريات التكنولوجيا إخماده كل يوم. وُلد الإنسان بضوء خاص، نور فريد لا يتكرّر في أي إنسان آخر، وهذا ما يعكس النور الأوّل للعالَم. إنّ مهمّة الإنسان الأُولى على الكوكب هي أن يتعلّم كيف يشعر به، ويحسّه ويدرّب نفسه على سماعه، ليس بأذنَي الجسد، بل بأذنَي القلب والروح.
بالمقابل، فإنّ السماع لصوت الحوريات تلك يعني التشويش على الصوت الداخلي الخاصّ بكل إنسان، واقتلاع القدرة على الوعي والتفكير بحرية ووضوح.
في طقس تهبُّ فيه العواصف من كلّ صوب، وتنعدم فيه الرؤية بسبب الضباب، لن تُسعف الإنسان - البحّار أيّة بوصلة إلّا تلك الموجودة في أعماقه. مَن درّب نفسه على الإحساس بضوئه الخاص، ورؤيته، سينجو، ومن لم يفعل، ستأخذه الحوريات إلى أعماقها الآلية، أعماق العبث وعدم اليقين. هذا الضوء الموجود في داخل كلّ واحد منّا هو السارية الوحيدة التي يمكن أن نتشبّث بها، كما فعل أوليس، وسط غناء الحوريات وعواصف الضياع والارتباك. فمن يقدر أن يكون أوليس في زمننا هذا؟
مشاركة الخبر: من يقدر أن يكون أوليس في زمننا؟ على وسائل التواصل من نيوز فور مي