«فصول التوتر».. المزدحمة
حديث يجمعني بعدد من الأصدقاء على فترات متباعدة -حسبما تسمح الظروف ونادراً ما تسمح- يفرض موضوع الحديث نفسه، وفقاً للأيام أو المناسبات التي نعيشها، أو القريبة من اقتحام حياتنا، ولأول مرة أرى بين الأصدقاء اتفاقاً غير مكتوب على موضوع لقائنا غير الرسمي، وربما كان الاتفاق ناتجاً ونتيجة لحالة أحد أصدقائنا، الذي يبدو عليه التوتر -حسب وصفه- فخالفه الرأي صديقنا الطبيب الشاب، بأن حالته اضطراب نفسي يتساوى مع القلق في أعراضه، فيما رأى صديق ثالث أن الأعراض تشبه حالات التوتر -رغم أنه ليس طبيباً-، فتنازع جميعنا الرأي، هذا يؤيد وجهة نظر الطبيب، وآخر يؤيد وجهة نظر صديقنا المثقف، واحتدم النقاش، وأمسى كل فريق يفنّد وجهة نظر الفريق الآخر، ويضع على الطاولة ما يؤكد وجهة نظره من أدلة -يراها علمية ومنطقية-، وقبل أن يصل الحوار الودي لارتفاع الأصوات وقلب الطاولات ومغادرة الصحبة المسائية الجميلة، صرخ فينا صاحب المشكلة الرئيس، مطالباً بالصمت فلم يعد قادراً على سماع الأصوات المتداخلة الصاخبة.
لف الصمت الحذر أرجاء المكان، وبدأ صديقنا الكلام متصنعاً الهدوء، ولم يخل الأمر من ارتفاع حدة الصوت شيئاً فشيئاً، حيث يعيش حالة من القلق والضغوط النفسية، أو التوتر -حسب تعريفات الأصدقاء- فضغط على أسنانه وهو يحدثنا بأن تلك الحالة التي يعيشها لا تغادره، بل تخف حدتها في أيام أو مواسم، وما تلبث أن تعود فقد فاجأنا جميعاً بأن المدارس ستفتح أبوابها بعد أيام، فيعم القلق أرجاء البيت، فبين متطلبات المدارس وعروض المتاجر، والبحث عن وسائل انتقال آمنة لأطفاله، تضاف جميعها إلى الأعباء المعيشية، فتتداخل الأولويات، ويعلو صوت صديقنا الطبيب منتصراً لوجهة نظره، بأن هذه الحالة ما هي إلا ضغوط نفسية ترتبط بالمشكلات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية والحياتية وصولاً إلى الحالة الصحية، ومن ثم يتفاعل معها الجسم متوتراً، وتظهر على إثر ذلك أعراض جسدية مؤلمة، ولكنها في بداياتها محتملة، فيقاطعه الصديق المثقف -معترفاً بأنه ليس طبيباً- بأن تلك الأعراض الاجتماعية التي تظهر على صديقنا المشترك، وصلت إلى مرحلة التوتر المرضي، ويتحول من اضطرابات جسدية معقولة أو محتملة، إلى أعراض أكثر حدة وشراسة، فيصاب هذا الإنسان المتوتر بارتفاع ضغط الدم، وأمراض الشريان التاجي، والمغص واضطرابات الجهاز الهضمي والقولون خاصة، وصولاً إلى مرحلة الاضطراب النفسي، الذي يعد القلق من أهم أعراضه.
ويتدخل الطبيب ويؤكد أن التوتر رد فعل نفسي وجسدي طبيعي تجاه متطلبات الحياة، وكثرة تحدياتها التي تبدأ بما ينتظر الإنسان العادي كل يوم من انتظار وازدحام ومرور، وصولاً إلى الأعباء المعيشية من مأكل ومشرب وملبس، وفواتير، ومتطلبات لم يكن يحسب لها حساباً، مثل المدارس والجامعات، وما تتطلبه من نفقات تفوق حدود المعقول على فترات متواترة متقاربة، تزدحم جميعها فتثقل كاهله، فيتحول العبء الاجتماعي إلى وجع غير محتمل، مع أن العقل يعمل جاهداً بنظام الإنذار المبكر، فيقوم بتحفيز الجسم لإطلاق كميات من الهرمونات التي تزيد من معدلات ضربات القلب، ومن ثم يرتفع ضغط الدم، وكثيراً ما تستمر أنظمة الإنذار المبكر من العقل، رغم عودة الحياة إلى إيقاعها الهادئ نسبياً، ومن ثم تستمر الأعراض المرضية.
قاطع صديقنا المتوتر الحديث، وتحدث بكلمات تحمل بعضاً من عدم الاكتراث، وكأنه يقول لأصدقائه أنا أكثر منكما وعياً بحالتي، يا سادة: الضغط النفسي حالة مزمنة إذا لم نتدارك أعراضه، سيصبح الجسم متحفزاً، ومن ثم ستكون الصحة العقلية مهددة، مثلما يحدث في الجسم..
وقبل الكلمات الأخيرة لصديقنا المتوتر، همّ واقفاً، موجهاً حديثه لنا جميعاً: "لم أكن في حاجة لتشخيص حالتي المرضية.. فقط إنها فصول الدراسة السنوية، عفواً فصول التوتر المتواترة"، ثم انصرف دون أن يسلّم.
مشاركة الخبر: «فصول التوتر».. المزدحمة على وسائل التواصل من نيوز فور مي