التحقيب التاريخي والحداثة وما بعدها
للفكر أوعية تحمله، إذ "لا ماديّته" عصيّة على إرساله بين الناس بلا تصوير ذهنيّ يقولبه في "مفاهيم"؛ تمكّنه من الخروج إلى العالم، مبيناً ومُتبيّناً. وكما أن الروح لا تتجلّى بلا فعل وصوت عبر الجسد، كذا الفكر لا يُتصوّر بلا صوت وكتابة؛ فتجسيده تصويره. ولكل صورة ملامحها وجيناتها الخاصة، وقوّتها، وضعفها، ومجالها، ومربعها الذي ستنشأ وتشبّ عن الطوق فيه، ونهاية أمرها، وبقاء أثرها أو عدمه. وبفضل مفهمة الفكر يتخطى رقاب الغموض والغيب والإبهام، وتتعدد مفاهيمه بحسب المجالات. والمفهوم أصغر وحدة تصويريّة يمكن بعدها بناء المسائل، والقضايا، والتعريفات، والحكايات؛ في وشائج علاقات بين المفاهيم وسياقاتها ومتعلقاتها. و"المفاهيم" من جهة المتلقي تصوير للدلالات، وهي من جهة المُلقي محلّ عنايته "المعاني"، وبين المُلقي والمتلقي مسافة، قد يقرّبها الفهم وقد يباعد بينها؛ بحسب ما اتخذ من طرائق وتوجهات، فضلاً عن التباعد الزمني، وما يصحبه من تباعد الأفهام. ومن ذلك "المفاهيم التاريخيّة" التي تساق من سياق ومساق ممارسات البشر عبر الزمن، بحسب المدّة المحددة، ولأنها تمرّ بتغيّرات فارقة، ومنعطفات؛ فقد قامت الحاجة إليها، وفق عامل مفاهيمي مهم في الاشتغال التاريخي، وهو "التحقيب"، وقرينه الفاصل بين الحقب "المنعطف".
فـ"التحقيب التاريخي" مفاهيم رمزية، يحتاجها المؤرّخ ليعيد تأويل التاريخ بحسب الرؤية الفكرية للمؤرّخ، أو لجماعة ما، والإطار الفلسفي، وإطار النظرة إلى العالم، فضلاً عن التوجه الفكري؛ فكلها تؤثر في رؤية المؤرّخ. وقد درجنا على تحقيبات نحو العصر: القديم، الوسيط، الحديث، المعاصر؛ كذا على: ما قبل الحداثة، الحداثة، ما بعد الحداثة...؛ وهي تحقيبات أبرزتها سلطة قلم الكُتاب والأكاديميين الغربيين، وهي في حقيقتها ذات أصل غربيّ، وفق رؤية عامّة. فللتحقيب التاريخي أهميّته للمدّ بالأدوات اللازمة، للتنظير لفكرة ورؤية معيّنة إزاء التاريخ، وإعادة كتابة القصص التاريخية الكبرى؛ غير أنها منهجيّات، والخلل عندما نستهلك ما أنتجه غيرنا، ونعمم نتائج مفاهيم تحقيبية من فئة ما على العالم كله، ولا نُفرّق بين المنهجيات ونتائج الموضوعات، فنستهلك، والنتيجة التقليد.
وبحسب د. محمد صهود، الذي أمضى ثلاثين سنة لتدريس التاريخ، وانشغل بالمسائل الفلسفية والمنهجية لـ"التاريخ"؛ فإن الأساس التاريخي لرؤيته لـ"التحقيب التاريخي" يعيد النظر في التحقيبات التي شاعت، ومن ذلك الأهميّة الفلسفية لرؤية ارتكزت على فرضية هي "وحدة التاريخ الإنسانيّ"، فضلاً عن الممانعة البنيوية تجاه تعددية التاريخ الإنساني. فدعا إلى إعادة النظر في المنتجات المفهوميّة المستوردة، وأهميّة الاشتغال بمنهجيات التحقيب بحسب الموضوعات، التي يشتغل عليها المؤرّخ؛ فيحقّب تحقيبات تناسب بين الموضوع والمنهج، إذ لكل موضوع تحقيبه التاريخي الخاص، وهذا يشمل كل التخصصات والموضوعات، لا مجرد تواريخ الأمم في حيّز جغرافي، أو صلة قوميّة معينة. فما كان حقبة مهمة في مجال أو بلد معيّن، لا يعني أنه حقبة مهمة لها منعطفاتها المؤثرة في بلد آخر.
ومن هذا المنطلق ننظر إلى ما شاع من كتابات تقسم العالم المعاصر إلى شطرين "الحداثة" و"ما بعد الحداثة"، وأخذ هذه المفاهيم التحقيبية كأنها مسلّمات، والبناء عليها دون مساءلتها، ومدى ملاءمتها لكل المجتمعات، فضلاً عن مفاهيمها التي جرى النزاع عليها: السرديات الكبرى، القوميات، الجوهر... إلـخ. فقبل الاصطفاف النقدي مع جماعة "الحداثة"، أو جماعة "ما بعد الحداثة"، وتلقف الكتب الفكرية والأدبية الناقدة؛ لا بدّ من نظر في أصل التحقيب الفكريّ-الفلسفيّ، ومن نظر في الفروق بين أنواع من "ما بعد الحداثة" بالنسبة للفكر الغربيّ عامة، فضلاً عن المدارس التي انضوت تحتها، وهل لهما ذات التأثير في مناطق أخرى من العالم؟ وأن التحقيبين في أصلهما، ومظهرهما، ينحدران من أيديولوجيا "المركزيّة الغربيّة"؛ في حين أنّ الأصداء تجاههما تتفاوت تفاوتاً بحسب تأثر الأمم والثقافات الأخرى بها، وخصوصاً تداعيات القرن الضاغط "القرن التاسع عشر"، على العالم الغربي خاصّة، والعالم بشكل عام. فلا بد من تحديد المجال الذي يريد الباحث الاشتغال عليه، لتبيين أي المجالات الثقافية، أو القطاعات الحيوية، أو الأبعاد الجيوسياسية... إلـخ؛ التي تجد للصراع بين "الحداثة" و"ما بعد الحداثة" فيها أثراً، عوض تلقف المترجم، والوافد، وإسقاطه، دون تبيّن حالة الإسقاط هذه التي تنتخب النماذج التي تتسق مع الوافد لتثبته؛ أهي نماذج هامشية لا تشكل قيمة في المجتمعات الأخرى التي لم تتأثر كبير تأثر بهذا التحقيب؟
فقبل نقد مظاهر "الحداثة" أو "ما بعد الحداثة"، كذا فلسفتيهما في مجتمعات غير غربية، لا بدّ من النظر لقيمة هذين المفهومين التحقيبيين، وأصولهما الفلسفيّة في موضوع الدراسة، حتى يكون للدراسة، ولفهم الواقع الاجتماعي، والتاريخي الوطني والإقليمي؛ قيمة. وحتى لا نتلقف تلقف من اتخذ الإنتاج المعرفي الغربي قِبلة له في كل شيء، ولم يفرّق بين أداة وموضوع، فنجتهد للبحث والدراسة والتقارير، في حين الأصول التي انطلقنا منها بحاجة لنقد وتصويب منهجي رصين، فنعود بالضرر على أنفسنا، وفهمنا، ومجتمعنا. ولنفهم أكثر، ونعرف ما الذي يعزز ما لدينا من مكتسبات، ويخلق فرص إبداع، مع ترسيخ للأصالة. فضلاً عن سهولة الاختراق من قبل من تلقفنا فكره، فنكون أطوع له، يشكلنا بحسب أطره وأجندته، لأننا طوّعنا أنفسنا له طواعية، ولم نمتلك خصوصية أصيلة نتدرّع بها عن الاختراق الذي يفتت الهويّة الذاتية، والمجتمعية، والوطنيّة. فالتاريخ قوّة تتحكم في رؤيتنا لأنفسنا، وللعالم من حولنا، وهذه التحقيبات التاريخية مفاهيمٌ تعي فكر أصحابها، ومقاربات، وليست حقائق لا تقبل الدحض، وليست بالضرورة واعية لتاريخ لم تختبره تلك العقول، لبيئات مغايرة لبيئاتهم وثقافاتهم.
مشاركة الخبر: التحقيب التاريخي والحداثة وما بعدها على وسائل التواصل من نيوز فور مي