حين تألق الشعر في (حين من البحر)
(حينٌ من البحر) هو الديوان العاشر للشاعر السعودي إبراهيم عمر صعابي، يأتي بعد دواوينه: حبيبتي والبحر 1982 – زروق في القلب 1986 – وقفات على الماء 1991- مساء الحب أيتها الشمس 1997 – وطني سيد البقاع 1998 – وطن في الأوردة 2000 – من شظايا الماء 2001 – أخاديد السراب 2017 – زرقة المواجع 2017م . ثم يأتي ( حينٌ من البحر) الذي أصدرته دار النابغة للنشر والتوزيع - طنطا مصر 1446هـ/2024م.
يشتمل ديوان (حين من البحر) على (88) ثمانية وثمانين نصَّا ما بين قصائد وتغريدات شعرية قصيرة، تفصل بينهما أربع مقطوعات باكية، ونلاحظ أن الشاعر مزج بين أكثر من شكل في ديوانه فنجد القصائد البيتية والقصائد التفعيلية، ونجد القصيدة الطويلة، والقصيدة القصيرة، والمقطَّعة والبيت المفرد.
القسم الأول من الديوان ضم اثنتين وأربعين قصيدة منها ثلاث وثلاثون قصيدة في الشكل البيتي وتسع قصائد في شكل التفعيلة، والقسم الثاني صغير ضم أربع مقطوعات باكية أهداها إلى (أعز الأحباب أحمد بن يحيي البهكلي -رحمه الله)- وقد أعددتُ حلقة عن شعر البهكلي في إذاعة أبي ظبي منذ زمن بعيد. والقسم الثالث يحتوي على تغريدات شعرية كتبها إبراهيم صعابي ما بين عامي 2018- 2024م. وهي مقطّعات صغيرة تتناسب مع تغريدات تويتر، يؤكد بها أنه لا يتخلف عن منجزات العصر ولذلك جعل عنوانها تغريدات، وجميعها أبيات شعرية عدا تغريدة واحدة بعنوان زميلين كنا كتبها على شكل التفعيلة.
يحفل ديوان(حين من البحر) بكثير من الظواهر الفنية التي امتاز بها شعر إبراهيم صعابي عبر مسيرته الإبداعية الممتدة، وقد تعرفتُ على شعره منذ أن أصدر ديوانه الأول (حبيبتي والبحر) منذ أكثر من أربعين عاماً فوجدت قصائد الديوان تنطق بإبداع حقيقي وتفصح عن موهبة ثرية باحت بها قدرته الفذة على الصياغة وعلى رسم صور فنية فاتنة، تتخذ من الحبيبة والبحر جناحين تحلّق بهما في فضاء الإبداع الواسع، ومرت الأعوام وإبراهيم صعابي لا يتوقف عن الإبداع وإنما يضيف ديواناً إثر ديوان إلى أن تنشر أعماله الشعرية الكاملة منذ سنوات قليلة، ويحصل على الجوائز الكبرى، وتصير دواوينه كنزاً للدارسين، فتناقشها الجامعات، ويستعين بها الأكاديميون في تسطير بحوث الترقية بجانب الرسائل الأكاديمية التي نوقشت في رحاب الجامعات، وصار اسم الشاعر إبراهيم عمر صعابي واحداً من الشعراء الكبار، وعرفته محافل الشعر في عدد من الدول العربية.
وقد تناول إبراهيم صعابي الحديث عن الشعر في كثير من دواوينه، ولم يتنازل عن تناوله بوصفه خريطة حياة بالنسبة له، فاستهل ديوانه قائلاً:
الشعر نورٌ ونارٌ حين يستعرُ
حروفه الرعد والغيمات والمطر
الشعر بوحٌ بما في النفس من فرحٍ
ومن أسى في مرايا العمر يحتضر
الشعر حب وأحلام وخارطةٌ
حدودها كل ما غنى به الوتر
( الديوان - ص 13 )
ثنائية الحبيبة والبحر
أولاً: الحبيبة
وتصاحب الشاعر ثنائيةٌ الحبيبة والبحر، وتمتد عبر الديوان في كثير من قصائده ، أما الحبيبة فهي تتخذ أشكالاً متعددة ترسمها حالات الحب المختلفة.. فقد تكون واهمة كما في قوله:
أنا لا أحبك إنما
وهمٌ غزاك وخيماً
ثم يقول:
فتعلقم الشهد الذي
كان الدواء البلسما
(ص 62)
ولنلاحظ الفعل (تعلقم) الذي نحته الشاعر من (العلقم) الذي هو كل شيء مُرّ ( المعجم الوجيز – ص 431) فجعل العسل يصير مُراًّ وهو الذي كان الدواء الشافي ، ثم يلحق بذلك صورة الجرح المتعثر فيقول:
أنا لا أحبك إنما
جرحي تعثر وارتمى
(ص 63)
ومن حالات الحب ذلك الإحساس بسريان الحبيب في الروح كأنه الشهد.. فيقول:
يوماً تخبأ ف فنجان قهوته
فذقت شهداً سرى في الروح واستترا
( ص 68 )
ثم يقول:
وطار بي بهوى ما كنت أعرفه
حتى تفتت مني القلب واعتصرا
( ص 69)
وتتجلى الحبيبة حاضرة في وجود الشعر حين يقول:
قالت: "لحرفك طعم الشهد في شفتي
فقلتُ: حبكِ يا نبضي وملهمتي
لا تحسبي الشهد من حرفي أجسده
هذا رضابك سال اليوم في لغتي
ورد العبارة من خديك أسرقه
فيرقص الحرف مزهوَّا (بذاكرتي)
إن كنت فيك بدأت الحب أغنية
من الحنين ففي عينيك أغنيتي
تنفسي كلماتي حين تكتبني
ولملمي من جنون الريح أشرعتي
(ص 79)
ويقول إبراهيم صعابي:
تشتاقني في البعد شوقٌا عارمًا
وإذا قربتُ نأت بغير وداعِ
(ص119)
ويخبر الشاعر أن الحب إحساس في الروح فيقول:
الحب للحب.. لا ضَمٌّ ولا قُبَلُ
ولا لقاءٌ ولا نجوى ولا أملُ
الحب روحٌ من الإحساس بنفثها
فينا فنسمو بها شوقًا ونكتملُ
أن يركض القلب من خوفٍ ومن وجلٍ
حتى يرى جمرة الأحلام تشتعل
(ص 130)
ويعبر الشاعر عن لقطة لطيفة عن صديقه الذي غاب عن أصحابه حين انشغل بحبيبته فيقول:
ما للصديق الذي جلت محبته
أقصاه عنا غزالٌ ساحر الحَوَرِ؟
وراح ينأى به عن ضوء أعيننا
حتى تناسى رفاق الليل والسمرِ
( ص 136)
ثانيا: البحر
يحضر البحر حضوراً مؤثراً في دواوين إبراهيم صعابي بصفة عامة كما يحضر في ديوان (حين من البحر) فالبحر حاضر بدءاً من عنوان الديوان الذي هو العتبة الأولى، وتتجلى تفاصيل البحر عبر القصائد فنجد الميناء والرسوّ والسفائن في قوله:
يشيد في الأعماق ميناء روحه
لترسوَ بالخيرات فيه السفائن
ويستحضر الشاعر اليمّ والسفين والملاح في قصيدة ( اعترافات زائرة قديمة ) فيقول:
كنتُ كالورد رقة وبهاء
وهو يشتمُّ عطرىَ الفواحا
لو أطلت البقاء في اليمّ عشقاً
لا حتضنت السفين والملاحا
(ص 43)
ويرتبط البحر بالحلم وبالصحبة الطيبة والأنغام والغناء في قوله:
أَنَبْتُ عني عقود الفل تحضنكم
(أنبت الجرح لعل الجرح يلتئمُ)
يا صحبة النغم المسكوب في شفتي
غنيتكم فتغنى البحر والحُلُمُ
(ص 134)
يوجد خطأ مطبعي في الشطر الثاني في التغريدة السابقة: وصحتُه:
(أنبْتُ جرحي لعل الجرح يلتئمُ)
وتُعد قصيدة (انطفاء) من النماذج التي تجلي فيها حضور البحر بصورة عميقة الأثر سامية الإبداع.. وسوف نقتطف منها بعض السطور.. يقول إبراهيم صعابي:
انطفأ البَحّار
وهاجر للملأ الأحلى
نامت في الحزن مراكبه
غادر شاطئه الأغلى
( ص 56 )
ثم يقول:
انطفأ البحار على الساحل
والساحل يرتقب الآتي
والبحار يلوّح للـ"دِيسَةِ"
وهو يصارع موجته النشوى
(ص 57 )
لفظ (الدِّيسَةِ) يستخدمه الصيادون في جازان، وهو يدل على ستة أو سبعة صيادين يبحرون إلى إحدى الجزر القريبة في جنوب البحر الأحمر، ويمكثون بها من أسبوعين إلى شهر وكل صباح يخرجون للصيد، ويجمعون ما رزقهم الله به من أسماك: فيحملها أحدهم إلى جازان.
حيث يبيعها ويقسم ثمنها على أفراد المجموعة بالتساوي، ويسلّم نصيب كل واحد إلى أسرته، ثم يعود ليلحق بزملائه في الجزيرة، ويعد ذلك من المظاهر الطيبة للتكافل الاجتماعي لدى الصيادين.
ويقول ابراهيم صعابي في المقطع الرابع من القصيدة ذاتها:
لا نامت عينٌ للبحار
سرقوا في الليل شراع سفينته
(ص 59)
ثم يقول:
انطفأ البحار
تحطم مجداف حقيقته
فتسوّر في الماء مدينته
(ص 60)
ويختتم الشاعر قصيدته بمقطع مفعم بالمشاعر المتدفقة التي فجرتها أسئلة متتالية حيث يقول:
انطفأ البحار
وانطفأت روح البحار
عاد غريقاً..
يتبعه ألف حوارٍ وحوار
من قتل البحار ..
من أطفأ شمس البحار..
من أغرق حلم البحار..
من أخرس صوت البحار ..
من .. من .. من .. ؟
انطفأ البحار وعاد حزيناً
وانطفأت أسئلة البحار.
(ص 61)
وبعد..
لقد أضاف الشاعر إبراهيم صعابي جانباً جديداً في تجربته الشعرية بهذا الديوان تمثل في تنوع الأشكال في قصائده ما بين البيتي والتفعيلي من ناحية، وما بين طول القصيدة التي باحت بمكنونها في عدة صفحات، وقصر النص الذي وصل أحياناً إلى بيتٍ مفردٍ واحد، مما أسهم بالضرورة في تنوع البنية في قصائد الديوان الذي غلب عليه الشكل البيتي الموزون المقفى من ناحية أخرى ، ولم يتنازل الشاعر عن رؤيته التي صاحبته منذ خطواته الأولى التي تمثلت في ثنائية الحبيبة والبحر، وإن كان الشاعر من خلال تلك الرؤية يطوّر في جوانب تجربته الشعرية من حيث بنية القصيدة والصورة الفنية واللغة بكل ما حملت من إضاءات دلالية وأسلوبية ولعل النماذج التي سقناها تؤكد تطور التجربة الشعرية لديه، وتؤكد أن ديوان (حين من البحر) إضافة حقيقية إلى المسيرة الإبداعية للشاعر الأستاذ إبراهيم عمر صعابي.
د. فوزي خضرمشاركة الخبر: حين تألق الشعر في (حين من البحر) على وسائل التواصل من نيوز فور مي