الأمثال الشعبية.. ذاكرة حياة (4)
جباح العزعزي قراءة مغايره
التسليم بمقولة الأولين ماخلوش للآخرين حاجة، تعني التسليم المطلق بتوقف _الزمان المكان باعتبارهما متداخلين حسب آينشتاين_ عند تلك الفترة.
وهنا تقابلنا معضلة تحديد تلك الفترة التي لم يُخلي (يترك) لنا أولئك الأولون حاجة ونقصد بها الأمثال، والأدب الشعبي بكل فنونه. إننا نعيش في عالم يتحرك بتسارع جنوني في مجال الاتصالات ونظم المعلومات، والتطورات المخيفة لأسلحة التدمير الإنساني والبيئي. وكذا تقنية الذكاء الاصطناعي، وإزاء حياة كهذه لا بد لنا من التأثير والتأثر بهذه الحياة الاستهلاكية.
ولأن النبال لم يعد له مكان، وأن مورد الماء تلاشى، و قد صار المسافة بين أقصى الأرض وأدناها التي يقطعها الصوت والصورة تقدر ببعض الثواني. لا بد وأن نجد الكثير من الأمثال التي تتخذ من تقنياتنا الحاضرة (الأيباد، الواتس الفيس بوك وغيرها). وكمثل حديث يحضرني الآن، خير جليس في الليالي الواتس آب. وحتى أدوات الحرب نسمعها في الحث على السرعة:
اذهب وارجع طلقةْ
صفوة القول أن الأمثال تجدد لونها ووظيفتها و صورها الإبداعية بما يتناسب مع الواقع المعاش، لأن الشعب مصدر هذه الأمثال بعيدًا عن السلطة السياسية. وما تلك التعليقات التي نجدها في بعض منصات التواصل الاجتماعي والأسواق وتجمعات الأفراح والاتراح إلا روائح لونية متجددة لتلك الأمثال. ومع هذا نجد أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أفقدتها شهية الانتشار شفاهيًا.
قراءة مغايره:
كنموذج محلي نجد أن أشهر سارد للأمثال في منطقة العزاعز هو (عبدالرحمن جباح). فأقواله التي تختزل الواقعة بصورة شعرية وشاعرية مكثفة تعدت حدود المنطقة، ولكن للأسف رافق هذا الانتشار النظرة السلبية (للعين) التي لم يثبتها اليقين العلمي في تجاربه. مع أننا لا ننكر إشارة القرآن الكريم إليها، وإيماننا فيها كحقيقة ما ورائية (غيبية) لا يمكن اثبات كيفية حدوثها عمليًا وانما الايمان الغيبي بها.
الدارس لهذه العبارات (الجباحية) التي تعكس ثقافة وخفة روح (جباج)، وقدرته البديهية على تصور الموقف في عبارة قصيرة، وتشبيهاته يجد أنها ضاحكة مبكية، وساخرة محزنة في مواقف، وفي أخرى يرى أنها تتميز بالنقد الاجتماعي والاقتصادي والتربوي وحتى السياسي عقب ترشيحه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي لخصها بقوله:
(وقت الرواح كل النوب يروح إلى جبحه)
هذا المثل الذي شبه فيه عملية الفرز بقوله (بعودة النحل إلى خليته بطريقه غريزية)، وهو يشير إلى أن أعضاء الأحزاب سيصوتون لأحزابهم.
وعن عدد الأصوات التي حصل عليها قال: (شخليها ذري للانتخابات القادمة) ومعروف إن الذري ينتقى من السبول أو المحاجين الجيدة، و يجفف في مكان خاص ويخزن في مكان خاص أيضًا.
ولو تتبعنا الأمثال (الجباحية) بعين النقد الاجتماعي والأدبي والنفسي، لوجدنا أنها من اخصب المقولات المتخزلة لوقائع كثيره وبصورة شعريه إبداعية.
(الصرورة أخذت الجمنةْ وتركت القلاصات) معناه المباشر أن الصرورة (الحدأه) أخذت الدجاجة وتركت أفراخها..
عناصر الحكاية:
دعونا نحلل عناصره، الجمنه الإناء التي توضع. فيه القهوة وتقدم كعادة اجتماعيه يلتف على تناولها مجموعه من الأفراد ومن المثل نلاحظ أن هذا التجمع خارج البيت في الحقل مثلًا..
هنا يشبه (الجمنة) بالدجاجه كما يشير مجازًا إلى السلطة التي تظل في مكانها ويبقى المجتمع حولها بمثابه تلك القلاصات التي شبهها بالأفراخ.
ولأن سقوط الصرورة والدجاجة وارد لأكثر من سبب يكمن في الجاذبية الأرضية؛ خلخلة الهواء اثناء الطيران، المقاومة الشديدة التي تبذلها الدجاجة في محاولة العودة لإفراخها، وغيرها.
المعنى غير المباشر:
فالصرورة ثمثل السلطة السياسة التي وصلت مخالبها لإخذ الآباء من بين أبنائهم، وسقوطها يشير إلى قوة المقاومة أو النضال من أجل استمرار حياة الأجيال وهكذا دواليك…ِ
تنويه:
بإعادة قراءة تراث جباح الشعبي.. بعيدًا عن النظرة السلبية تلك، سنكون أمام تراث يوثق عادات وتقاليد وأعراس وأتراح و كذا المواسم الزراعية بل وحتى الطقوس الدينية للمنطقة.
النتائج السلبية التي رافقت تلك الحوادث من وجهة نظري لا تتعدى أن تكون مصادفة وهي أحد المغالطات المنطقية التي يصدف فيها منجم أو قارئ طالع، والذي يؤكد صحة ما ذهبنا إليه، أن تلك الوقائع ذات النتائج السلبية، يمنحها الخيال الشعبي اثارة مبالغ فيها كإفراغ، لما في الذهنية الشعبية من مخاوف سابقة.
مثال آخر يقول بينما نحن جلوس في انتظار لجنة الصلح إلاّ وفلان (ظهر محنجف كأنه ثور كيني) لهذا المثل معنى مباشرًا هو أننا أمام قضية يصعب حلها وكأننا نشاهد مصراعه الثيران.
عن مزرعة الدجاج يقول: (الحجاج كثروا هذه السنة)
في هذا المثل نجد أكثر من معنى؛ صورة مقاربة تمامًا لصورة الحجيج في ثياب الاحرام حول الكعبة أولًا، وثانيًا تساوي الخلق في الملبس والمأكل والمشرب وهم يؤدون شعيرة الحج، وهنا نجد المزرعة واحدة والمطعم والمشرب واحد واللون واحد. وثالثًا النقد الاجتماعي لصاحب المزرعة بأن يستلهم صورة الحجيج، وهو نقد تأملي للتفاوت الاجتماعي خارج إطار المزرعة.
القراءة المغايرة لما وراء هذه الاحداث أو الوقائع ستكشف لنا تراثنا المخزون في الذاكرة، وستخرجه من سلبية العادة المتواترة إلى قاعات البحث والدراسة عن معالم هذه المنطقة، ويمكننا أن نكشف في هذه القراءة أن (جباح) واحد من أهم وأشهر رواد الأدب الشعبي في محافظة تعز، المنتقل شفاهيًا عبر الأجيال.
..
طرفة:
أتى رجل إلى القاضي محمد إسماعيل العمراني قائلًا له
يا قاضي.. لقد استأصلت رحم زوجتي هل ستحمل؟
أنكر القاضي حمل المرأة (لعدم وجود أسباب الحمل وهو الرحم)
وحين ألح عليه الرجل قائلًا للقاضي قد تحمل بإرادة الله..
فرد عليه القاضي: بإرادة الله ستحمل أنت.
لو عُرض قول هذا الرجل على جباح ترى بماذا سيجيب؟ بماذا ستجيبه أنت؟
تعز 14/8/24The post الأمثال الشعبية.. ذاكرة حياة (4) appeared first on بيس هورايزونس.
مشاركة الخبر: الأمثال الشعبية.. ذاكرة حياة (4) على وسائل التواصل من نيوز فور مي