النظرة إلى العالم Worldview (2)
النظرة والرؤية: تقدم في المقال السابق استبدال «العطاس» ترجمة «النظرة» بـ»الرؤية»؛ لشمول الرؤية لعالم الغيب والشهادة معاً، وما تمتاز به الرؤية الإسلامية للكون من ثبات واستمرارية، تحت مبدأ التوحيد الأشمل، وقد أثبتُ ترجمة «النظرة إلى العالم» في العنوان لشيوعها، ولإرادة النفاذ من خلال هذا الشيوع، وفي هذا المقال استكمال لما تقدّم.
يبيّن العطّاس أن مرتكز مبادئ الرؤية الإسلاميّة للكون هو «التوحيد»، وبالتوحيد قد بيّن موضع الإنسان في هذا الكون، وأهم المبادئ المتفرّعة، وفق «علاقة الخالق بالمخلوق»؛ إذ من الوحي يعرف الإنسان خالقه سبحانه، وعلاقته به، ويتعرّف على منظومة الخَلق، وعلاقة الخَلق ببعضهم. ولعلّ أهم ما لفت إليه هنا، هو: أن أجلّ دلالات المباينة بين الله سبحانه وتعالى والإنسان هي: «الخالقيّة»، فلا اشتراك في الخالقيّة أبداً، وهذا الأمر يُخرج من إشكاليات جمّة في «علم الكلام الإسلاميّ»، مثل الصفات المقيّدة في حق الإنسان، كـ: «الرحمة»، و»الغنى»، و»القدرة»... فالإنسان مخلوق أبداً، لا حظ له في الخَلق؛ إلا على سبيل المجاز.
وقد شمل التعرّف إلى الخالق سبحانه تعريف الإنسان بـ»الرب» المتعالي، الخالق، المربي للإنسان، والحافظ، والمقدّر للكون، مقابل المخلوق المحدود؛ الكلّ على مولاه. ثم تعريفه بـ»الإله» وفق توحيد الألوهية من خلال الرسل عليهم السلام، وبيّن أن «المعرفة الغيبيّة» هنا هي أوّل ما حمله الإنسان؛ معرفة ربه سبحانه، فأصل المعرفة «الروح»، وهي أشرف ما يشّرف به الإنسان (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي). وقد نزل الإنسان بهذا الأصل المعرفي الشامل، غير المفرق بين غيب وشهادة، ومقدس ومدنس.
وجمع العطاس بين الممارسات العملية للمعرفة والنظريّة، في لفظ «الأدب»؛ ومفهومه: إدراك كل شيء في موضعه في النظام القرآني للكون والحياة. فالمعرفة في أصلها معنوية من الروح، و»الأدب» انعكاس لـ «الحكمة» في «المعرفة»، وانعكاس لـ «العدل» في المعاملات. فمجمل دلالة الأدب «وضع كل شيء في موضعه وفق النظام القرآنيّ»، وعند الإخلال بهذا الوضع يحصل الفساد؛ إنْ في جانب «الحكمة» أو في جانب «العدل». وعند فساد «المعرفة» تفسد «الرؤية الكونيّة»، ومن ثمّ كل المعارف التي تستند إليها، فلا بدّ أن يلحقها نصيبها من الفساد. وأزمة العالم المعاصر هي «فساد المعرفة»، الذي فصل المعرفة عن الأدب، أي فصل الروح عن العلم، وهذا الفصل يفضي لوضع كل شيء في غير موضعه، خلاف الحكمة.
ومدخل فساد المعرفة «Corruption of knowledge» هو «اللغة»؛ إذ هي المدخل الوجودي لإبراز واستضافة «الرؤية إلى الكون»، في نظام الفكر للناطقين بها. وإذا حدث الانفصال اللغوي، ونُقلت الألفاظ المترجمة دون النظر في بنية أصلها الفلسفي؛ فإن نظام الفكر يختل، فالمعرفة التي لا تتوخى الحذر في التعبير اللغويّ ستأتي برؤية تتضارب مع التمثيلات اللغوية، ودلالتها للرؤية الكونية الأصلية، لأن «اللغة تعكس الوجود». ومشكلة الاضطراب في الرؤية الكونية الإسلامية عند المعاصرين، سببها الفساد اللغوي، وذلك عند عدم التدقيق في المصطلحات والمفاهيم المنقولة.
ومن هذا الاضطراب: إشكالية ترجمة: «العلمانية»، و»العلم»، و»الفضائل»، و»الحرية»، و»السعادة».
وهذه المفاهيم التي اختارها العطّاس، قد التفت لها عدد من الباحثين، وناقشوها مناقشة جيّدة، تفضي للقول بإشكالية «المفاهيم» في حقل «المفاهيم المترجمة»؛ والتي هيمنت على جلّ الكتب العلميّة، في المجالين التطبيقي والإنسانيّ، فضلا عن دخولها للمجالات العلمية الإسلامية الأصيلة، من العلوم الشرعية والعربية.
وعند التدقيق، فمصادر العطّاس الفلسفيّة يتخللها تأثر كبير بالموروث الإغريقي، في مخالطته للتراث الإسلاميّ، بعد التداخل المعرفي عند تدوين وبلورة العلوم، ومن ثمّ فرؤية العطّاس لنظرة الكون الإسلاميّة تؤخذ في أصلها من القرآن والسنة، لكن عبر قنوات فهم التراث، وتأثره الواضح بالغزالي -رحمه الله-. ومن ثمّ فالإشكالية في الترجمة المعاصرة لا تعالج بإشكالية من الترجمة المتقدّمة، بل بالاستعمالات القرآنيّة الأولى لدلالات تلك الألفاظ، والاستئناس بالاستعمالات الإسلامية اللاحقة لا بعدّها المعيار، وإنما أحد تجليات فهم الاستعمالات القرآنيّة.
وفي المقال القادم تبيين لبعض المفاهيم المُشكلة وفق الترجمة المعاصرة، والترجمة السابقة، فيما بعد القرن الثالث الهجري.
مشاركة الخبر: النظرة إلى العالم Worldview (2) على وسائل التواصل من نيوز فور مي