14 أكتوبر.. قصة ثورة
سعيد الجناحي
بحكم ترابط نضال الحركة الوطنية اليمنية، تعتبر ثورة 14 أكتوبر امتداداً لثورة 26 سبتمبر 1962م على الساحة، لقد اندلعت بعد عشرة أشهر و18 يوماً من قيام الثورة السبتمبرية، ومن البديهي أن تشكل الثورتان ثورة واحدة لوطن واحد، من هذا المنطلق سنتناول خلفية وإعداد وانطلاقة ومسار الثورة الأكتوبرية التي تحققت بالكفاح المسلح.
أصيبت السلطات الاستعمارية البريطانية بالهلع جراء اتساع الثورة المسلحة، فلجأت إلى تشديد عمليات الاضطهاد، والمداهمات والاعتقالات وتعذيب المعتقلين وتمشيط مدينة عدن تفتشياً عن الأسلحة، وأعلنت حالة الطوارئ، وأصدرت قانوناً يعتبر الجبهة القومية منظمة إرهابية، ونص القانون على السجن لمدة عشر سنوات لكل من له صلة بالجبهة القومية، أو مساعدة «الإرهابيين»، أو محاولة الاعتراض على القبض عليهم، ومنح المندوب السامي البريطاني- حاكم عدن- صلاحيات استثنائية تخول له اتخاذ أية إجراءات يراها لحماية الأمن، ومن الإحصائيات البريطانية أن من أصبح في السجون في أكتوبر 1965م بلغ عددهم (1500) معتقل في عدن فقط.
كما منح الجنود البريطانيين حق استعمال الرصاص الحي ليس لمواجهة الثوار بل ولمواجهة المظاهرات، ومع ذلك كانت العمليات العسكرية في المناطق الريفية والفدائية في المدن تتصاعد وخاصة في عدن، حيث تميزت العمليات الفدائية بالتنظيم والجرأة والمباغتة، بعد أن تمكن الفدائيون من تصفية عدد من عملاء المخابرات البريطانية من المحليين، مما قطع أهم وسيلة من وسائل التعرف على الفدائيين أو مناطق تواجدهم، بل لقد طالت الاغتيالات عددا من كبار ضباط الانجليز العاملين في أجهزة الاستخبارات والجيش، وإلى جانب عمليات التنكيل لقمع الثورة، لجأت بريطانيا إلى المناورات السياسية الرامية إلى تعزيز وجودها، فعملت على إثارة اهتمام الأحزاب التي لم تشارك في الكفاح المسلح، للمشاركة في مؤتمر يضع أسس التفاوض على الاستقلال، وقد هيأ إلى مثل هذه السياسة وصول حكومة حزب العمال البريطاني إلى السلطة، وهو ما جعل السلاطين والأمراء حكام الكيانات الجنوبية يخشون من فقدان عطف حكومة حزب العمال البريطاني عليهم، بينما تنامى عند قيادة حزب الشعب الاشتراكي ورابطة أبناء الجنوب أن الفرصة واتتهم للتفاوض حول إصلاحات دستورية تأتي باستقلال يؤمن مشاركتهم في السلطة.
كانت هذه الأحزاب تشعر بانحسارها وفقدانها لمناصريها، خاصة حزب الشعب الاشتراكي الذي تعتمد قاعدته على نقابات المؤتمر العمالي، المنضوي تحت قيادته، وبسبب رفضه للكفاح المسلح فقد تأييد جماهير العمال له وتأييدهم وانحيازهم للجبهة القومية، أدى ذلك إلى انسلاخ ست نقابات عن المؤتمر، وأعلنت أن عبدالله الاصنج لم يعد له صفة شرعية كرئيس للمؤتمر، واتسع نفوذ الجبهة القومية من خلال أعضائها القياديين وسط النقابات حتى تمت السيطرة الكاملة على المؤتمر العمالي.
كانت الأحزاب المعارضة للكفاح المسلح- وهي حزب الشعب الاشتراكي، ورابطة أبناء الجنوب وهيئة تحرير الجنوب، وعدد من السلاطين الذين اختلفوا مع السلطات البريطانية، قد التقى ممثلون عنهم في القاهرة في يوليو 1964م، واتفقوا على تشكيل التجمع الوطني، واتفقوا على وضع ميثاق سياسي تضمن تأييد قرارات الأمم المتحدة لحل قضية الجنوب وحمل البرنامج مطالب بإطلاق الحريات العامة، وسراح المعتقلين السياسيين، وعودة المنفيين، وإجراء انتخابات عامة يشترك فيها كافة أبناء الجنوب لتكوين مجلس تمثيلي تنبثق عنه حكومة وطنية تتولى مسؤولية تسلم السلطة من الحكومة البريطانية، على أن توضع البلاد تحت إشراف دولي محايد قبل إجراء هذه الانتخابات ونتائجها، وجاء في الميثاق أن إصرار بريطانيا على سياستها المتعنتة ورفض قرارات الأمم المتحدة وتكريس الاحتلال جعل الشعب لا يجد مناصاً من اللجوء إلى الثورة المسلحة»، ثم تحول التجمع إلى منظمة تحرير الجنوب، جاء هذا الاتجاه تمهيداً للاشتراك في المؤتمر الدستوري البريطاني، ولا شك أن هذا البرنامج كان يتناقض مع برنامج الجبهة القومية، التي كانت تؤمن أن بريطانيا لن ترحل من الجنوب الاَّ بمواصلة حرب تحرير شعبه حتى النصر، ومن موقع التفاف جماهير الشعب حولها، واتساع نفوذها، وتمتعها بالدعم العربي والدولي جعلها تعلن أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب في الجنوب، وأعلنت عن موقفها من المؤتمر الدستوري، مؤكدة أن دعوة بريطانية لعقد مؤتمر دستوري في لندن لا يعدو كونه مناورة مفضوحة، فبريطانيا رفضت الاعتراف بقرارات الأمم المتحدة التي تخص تصفية الاستعمار من جنوب اليمن، ومنح شعبه حق تقرير المصير.
عُقد المؤتمر الدستوري في لندن أثناء شهر أغسطس 1965م شارك فيه حكام الولايات الموالون لبريطانيا وقيادة حزب الشعب الاشتراكي ورابطة أبناء الجنوب، ورئيس حكومة عدن- السيد عبد القوي مكاوي، طرحت الحكومة البريطانية تشكيل دولة جنوبية موحدة، واستئجار القاعدة الحربية في عدن لقاء (15) مليون جنيه استرليني في السنة لاستعمال أغراض التنمية، بعد نيل الاستقلال، كان الهدف تشكيل دولة جنوبية مرتبطة بمعاهدة حماية بريطانية، تؤمن لها شرعية دولية، مما يعني وجود كيان يستحيل بوجوده إعادة وحدة اليمن، واجه المؤتمر معارضة شعبية واسعة بقيادة الجبهة القومية سمته في بيان لها بـ(مؤتمر الخيانة)، وأكد موقفها أن عقد مؤتمر في ظل رفض بريطاني لقرارات الأمم المتحدة، وتصفية القواعد العسكرية، ليس إلا مناورة إنجليزية، وأن بريطانيا لجأت إلى أحزاب رفضت الاشتراك في الثورة، وارتضت بالعمالة بهدف وأد الثورة المتصاعدة.
فشل المؤتمر الدستوري أمام إصرار بريطانيا على سياستها، ومن هنا انهار أمل حزب الشعب الاشتراكي بالاتفاق السلمي مع حكومة حزب العمال البريطاني وفقدان حزب الشعب الاشتراكي والرابطة مواقعهما والخوف من أن قطار الثورة يسير بقيادة الجبهة القومية بدونهم، قدم عبدالله الأصنج استقالته من المؤتمر العمالي، وأعلن الكفاح المسلح ضد المستعمرين وغادر عدن إلى تعز والقاهرة.
ثمة أحداث من الصعب تجاهلها، وهي تأثير التطورات على ساحة الشمال على مسار ثورة 14 اكتوبر، لقد أدى استمرار الحرب بين الجمهورية المدعومة بجيش مصري والقوى الملكية المدعومة بدعم السعودية، والغرب الاستعماري المعادي لسياسة الزعيم عبد الناصر، مما قاد إلى اتفاق بين مصر والسعودية على تسوية قضية الشمال وفق اتفاقية جدة- أغسطس 1965م، وخشية من الجبهة القومية على انعكاس سياسة التسوية في الشمال على الجنوب، رفضت اتفاقية جدة، ويأتي هذا الموقف من موقع الجبهة القومية التي أصبحت ذات نفوذ فاعل حقق لها استقلالها من تأثير الأجهزة المصرية، وتدخلها في شؤونها، بعد أن تصاعد تذمر قيادات الجبهة القومية من سياسة الأجهزة المصرية، والتي كانت تخضع في كثير من الحالات إلى أمزجتها ومصالحها الشخصية، وحين أقضت سياسة مصر باتجاه المصالحة بين القوى السياسية في الجنوب من منطلق توحيدها في جبهة وطنية عريضة، وعلى ضوء ذلك وجدت منظمة التحرير دعم الأجهزة المصرية بعد أن عقدت مؤتمراً لها في تعز حضره حزب الشعب والرابطة، وعدد من السلاطين والمشايخ المعارضين للسياسة البريطانية، وأعلنت فيه تبني الكفاح المسلح، وانسحب الرابطة بسبب رفضها حل نفسها، والاندماج في إطار منظمة التحرير، على ضوء ذلك استمالت الأجهزة المصرية ثلاثة من قادة الجبهة القومية، وأجرت مشاورات بينها وبين منظمة التحرر تحت مبرر وحدة القوى المناضلة في الجنوب، وفي 13 يناير أذيع بيان من إذاعة صنعاء وتعز بتوقيع عبدالله الأصنج، وعلي أحمد السلامي يعلن دمج الجبهة القومية ومنظمة التحرير في جبهة واحدة تسمى جبهة تحرير الجنوب، وعلى ضوء هذا الإجراء الذي أعلن دون أن يقر من قبل قيادة الجبهة القومية أو مجلسها الوطني، بدء مسار مرحلة الدمج.
جاء هذا التطور في زمن كانت ثورة 14 أكتوبر قد وصلت أوجهها، لقد أصبحت جبهات القتال (12) جبهة، وبلغت العمليات الفدائية في عدن حسب المعطيات البريطانية (286) عملية، قتل خلالها (35) وجرح (202) بريطانيين، ومن الثوار والمدنيين استشهد (14)، وجرح (85) مقاتلاً ومدنياً، وبلغت العمليات في مناطق القتال في الريف (663) عملية قتل من جرائها (24)، وجرح (113) جندياً وضابطاً بريطانياً، واستشهد (170)، وجرح (300) من الثوار.
مسار أحداث الثورة أثناء مرحلة الدمج
استمر الدمج ما بين- يناير- ديسمبر 1966م محدثاً بين قيادات وقواعد الجبهة القومية ارتباكاً في صفوفها، وكان الموقف رفض ذلك الدمج لكونه دمجاً قسرياً، لم يتخذ الشكل التنظيمي الشرعي، بل جاء بموافقة ثلاثة من القياديين لا يملكون حق إلغاء تنظيم بكامله يمتلك قنوات شرعية.
بعد الدمج حول نفوذ الأجهزة المصرية أجهزة الإعلام بإذاعة ونشر كل الأخبار باسم جبهة التحرير، حتى وان كان منفذو العمليات من أعضاء الجبهة القومية التي استمرت بالاحتفاظ بكل تنظيماتها العسكرية والشعبية، وبقيت منظمة التحرير عملياً جهة التحرير فاقدة لقواعد تسندها عدا أعضاء حزب الشعب الاشتراكي وجماعات سياسية. ومجموعة من العناصر التي انسلخت من الجبهة القومية اعتقدت أن الجبهة ستنتهي لمجرد إيقاف المساعدات المالية والأسلحة عنها من قبل الأجهزة المصرية التي بالفعل حولت كل المساعدات لصالح جبهة التحرير.
كان رد الفعل داخل الجبهة القومية شديداً ومتعددا،ً لقد زُجت في أزمة، لكن اللجوء إلى الأطر التنظيمية شكل واحداً من أهم عوامل الخروج من تلك الأزمة، فقد تداعت القيادات العسكرية والشعبية وخاصة الثانوية بحكم غياب أعضائها من القيادة العامة في الخارج، وتوجهوا إلى تعز، حيث بلغوا القيادة المصرية عن شجبهم للدمج القسري، وعقدوا اجتماعات خرجوا منها بتجميد عدد من أعضاء المجلس التنفيذي، وانتخاب قيادة جديدة من بين صفوف القيادات الثانوية على رأسها عبدالفتاح إسماعيل.
وعندما بات واضحاً أن الجبهة القومية تقف بحزم ضد الدمج، استنجدت القيادة المصرية بالأمانة العامة لحكمة القوميين العرب، وعلى اثر ذلك وصل وفد يمثلها إلى تعز لإقناع قيادة الجبهة القومية بالقبول بالدمج، لكن الرؤية التي تبلورت واتبعتها قيادات الجبهة القومية تسير في اتجاهين تهيئة دعامة قوى الجبهة القومية الخاصة، والبحث عن تحركات تكتيكية في إعادة تركيب علاقتها مع جبهة التحرير مع التبييت لانسحاب الجبهة القومية في المستقبل من جبهة التحرير بعد تهيئة ظروف الاعتماد على الذات.
في هذه الظروف طرحت قيادة الجبهة القومية اقتراحاً بتشكيل مجلس قيادة جبهة التحرير حتى انتخابات المجلس الوطني كهيئة مؤقتة، على أن يعطى ثلثاً من أعضائها للجبهة القومية وثلثها فقط لممثلي منظمة التحرير، وفي مطلع مارس 1966م أعلن من القاهرة عن تشكيل مجلس قيادة قوامه (13) عضواً مناصفة، واصبح العضو الـ (13) عبد القوي مكاوي اميناً عاماً لجبهة التحرير، في غضون ذلك وفي 18 مارس اعترفت الجامعة العربية بجبهة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً لشعب الجنوب، وحولت الجمهورية العربية المتحدة (مصر) مساعدتها وتأييدها كلياً لجبهة التحرير.. في هذه الأثناء تمكنت الجبهة القومية من عقد مؤتمر سري بمساعدة فرع حركة القوميين العرب في الشمال- استمر من 7-11-يونيو في مدينة (جبلة) محافظة إب، دون أن تعلم الأجهزة المصرية بانعقاده، تناول المؤتمر الثاني للجبهة القومية الأوضاع التنظيمية بالنقد واتخذ إجراءات تنظيمية بحق عدد من القياديين، وقرر المؤتمر الاعتماد على الذات وابتكار وسائل جديدة في حرب التحرير الشعبية، ودعم المؤسسات العلنية، والاهتمام بإصدار مطبوعات ونشرات دورية، وضرورة مواصلة التطوير التنظيمي، وتم انتخاب قيادة جديدة، وضع المؤتمر تصوراً للوحدة الوطنية، وكلف أعضاء القيادة العامة عبدالفتاح إسماعيل، وعبد الملك إسماعيل، وسيف الضالعي، وأحمد صالح الشاعر، ومحمد علي هيثم بالسفر إلى القاهرة للاشتراك في المحادثات بشأن الوحدة الوطنية، غير أن الصراع داخل مجلس جبهة التحرير لم يتوقف، ففي يونيو 1966 ازداد تفاقماً بسبب تشكيل مجلس وطني دون التشاور مع الجبهة القومية، والدعوة لانعقاده في 03 يونيو 1966م، الأمر الذي جعل قيادة الجبهة القومية ترفض ذلك الإجراء، وبعثت جميع قيادات الفصائل التابعة للجبهة القومية برسالة احتجاج إلى الأمين العام لجبهة التحرير، وبرقية إلى الرئيس جمال عبد الناصر، حذرت من خطر تعرض الوحدة الوطنية إلى التصدع، والى جانب رسائل الاحتجاج سيرت الجبهة القومية مظاهرات صاخبة في عدن، شاركت فيه مختلف قيادة الشعب، وأيدت الاحتجاجات النقابات والمعتقلون السياسيون، وفي ظل هذه الأوضاع وفشل إذابة الجبهة القومية في إطار جبهة التحرير لجأت منظمة التحرير، والمخابرات المصرية إلى المراهنة على إجراء محادثات مع الجبهة القومية، وايجاد صيغة وسط للوحدة.
وفي القاهرة استمر الحوار حوالى شهرين توج بعقد مؤتمر الإسكندرية في أغسطس 1966م تم التوصل فيه إلى اتفاقية جاء فيها أن الدمج التوحيدي لا يتجاوب مع مصالح كلا التنظيمين وبدلاً عنه يجرى تشكيل جبهوي تحصل الجبهة القومية في هيئاتها القيادية على ثلث المقاعد، على أن تعمل القطاعات المسلحة تحت إمرة قيادة مشتركة واتخذ المؤتمر قراراً يخول المجلس الوطني بتعيين أعضاء مجلس، وقرار بعدم القيام بمهاجمة الجيش الاتحادي، وبعدم الاعتراف بالأحزاب السياسية العميلة، بعد المؤتمر اعتقدت منظمة التحرير أن الجبهة القومية في حالة خروجها من جبهة التحرير لن يعترف بها أحد، ولذا وافق وفد المنظمة ومصر على استقلالها التنظيمي، لكن تعميماً سرياً أعده حزب الشعب الاشتراكي أكد أن الدور سيكون لجبهة التحرير، وأن دور الجبهة القومية سوف يهبط إلى الصفر، مثل هذا الاستنتاج أو التمني لم يكن له صلة في واقع الأمر، لافتقاد جبهة التحرير إلى القواعد المنظمة القادرة على إدارة الصراع، وهو ما كانت عليه الجبهة القومية، فعلى سبيل المثال خلال الدمج أي خلال عام 1966م عملت قيادة الجبهة القومية في المناطق الريفية، على تأسيس القوات الشعبية- وهي فصائل مقاتلة ومنظمة رافدة لجيش التحرير من جهة، ولتوسيع المشاركة الشعبية في النضال المسلح، وفي عدن وبعد موافقة قيادة جبهة عدن أسست الجبهة القومية حرس (الفتوة) وحولته في صيف 1966م إلى الحرس الشعبي بهدف ردم الهوة التي نشبت بين القطاعين الفدائي والتنظيمي، ولجذب أعضاء التنظيم إلى المشاركة النشطة في العمل العسكري المسلح.
جاء إنشاء جبهة التحرير لإحداث ظاهرة سلبية، وتراجع الكفاح المسلح، في ظل افتقار جبهة التحرير للقواعد المنظمة، والى البرنامج السياسي المعلن، وبسبب القيود التي وضعتها الأجهزة المصرية أمام تزويد الجبهة القومية بالسلاح، وإن ظل اعتمادها على المخزون المتوافر لديها.
رفضت قيادات الجبهة القومية في- الداخل- أي داخل الجنوب اتفاقية الإسكندرية، واتجه نشاطها إلى جانب النضال المسلح للإعداد لحركة الانسحاب من جبهة التحرير، وجاء توقيت ذلك في أكتوبر 1966م بمناسبة الذكرى الثالثة لانطلاق الثورة، ففي هذا الشهر شهدت عدن مظاهرات وتوزيع المنشورات تدعو إلى انسحاب الجبهة القومية من جبهة التحرير، وامتدت المظاهرات إلى المدن الريفية وتجاوباً مع هذا المد، قررت قيادة القطاع الفدائي في عدن الانسحاب، وجاء التنفيذ مساء يوم 14 أكتوبر، فقد كثف الفدائيون من عملياتهم العسكرية ضد المعسكرات البريطانية، ووزعوا بياناً يعلن انسحاب الجبهة القومية من جبهة التحرير، ومن هذا الزمن توالت إصدارات الجبهة القومية للنشرات، والبيانات، التي تعلن عن العمليات التي تقوم بها، في كافة المناطق، ولإحداث نقلة شرعية تداعت قيادتها لعقد المؤتمر الثالث- عقد في (خمر) قرب منطقة قعطبة في الفترة ما بين 29 نوفمبر إلى 3 ديسمبر 1966م، وخرج المؤتمر ب انسحاب الجبهة القومية من جبهة التحرير وممارسة مسؤولياتها الثورية خارج إطارها، لعجز جبهة التحرير بالوصول إلى الغاية المنشودة للوحدة الوطنية، وفي 21 ديسمبر صدر بيان الانسحاب.
بعد انسحاب الجبهة القومية من جبهة التحرير واصلت العمليات العسكرية، وركزت على إصدار النشرات الإعلامية التابعة لها، واتجهت إلى جمع التبرعات، ووجهت جهودها في التغلغل بين أوساط الجنود والضباط الصغار ،ساعدها في ذلك خلايا حركة القوميين العرب، والتي تحولت إلى إطار الجبهة القومية.
شاركت عناصر الجيش في تهريب السلاح من منطقة إلى أخرى، كما شاركت في إصلاح قطع السلاح التي تصاب بالعطب، ثم تطور التنظيم في إطار الجيش إلى المشاركة في العمل العسكري.
أما جبهة التحرير فقد انتقلت رهن المشاركة الفعلية إلى الكفاح المسلح من خلال تشكيل التنظيم الشعبي للقوى الثورية تأسس كجناح عسكري تابع لجبهة التحرير، لكنه عملياً كان تنظيماً مستقلاً يتبع في توجهه الأجهزة المصرية، واتسم برنامجه بالاتجاه الناصري، وبدأ نشاط هذا التنظيم العسكري الملموس في صيف عام 1967م، وتركز نشاطه الفدائي ضد القوات البريطانية في عدن ودخل في إطار المنافسة مع القطاع الفدائي للجبهة القومية، وخلال هذه الفترة فتحت الأجهزة المصرية معسكرات في الحوبان بتعز لتدريب فرق من المتطوعين وإعدادها كجيش مستقبلي يعزز موقف جبهة التحرير.
واصلت بريطانيا مناورتها السياسية في يناير 1966م، وتحدثت التقارير البريطانية أنها أعدت مشروع دستور جديد لحكومة الاتحاد، غير انه لم يكتب له النجاح، وفي فبراير أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض لمسائل الدفاع جاء فيه: أن القوات البريطانية المرابطة في الشرق الأوسط تبلغ (26,850) عسكريا الجزء الأكبر موجود في عدن، وأن النفقات العسكرية كبيرة، وأن بريطانيا عازمة على منح الجنوب الاستقلال عام 1968م مع عزمها على تصفية القاعدة العسكرية في عدن، يعود هذا القرار البريطاني إلى انهيار مخططاتها الاستعمارية وتفاقم أزمتها المالية والاقتصادية، غير أن مسألة إعادة النظر وال عن موعد لاستقلال الجنوب يعود إلى اتساع نطاق ثورة التحرير الوطني الشعبية، فبرغم الصراع بين جبهة التحرير والجبهة القومية فقد استمرت الحرب الفدائية حدث تطور خطير في جبهة عدن التي كان يقودها عبد الفتاح إسماعيل، بعد أن احتجز من قبل الأجهزة المصرية أثناء قيامه بمشاورات مع رفقته بعد الدمج في تعز، ونقله إلى القاهرة تولى القيادة محمد صالح مطيع، علي سالم البيض ثم سالم ربيع علي (سالمين) تمثل في حصول الفدائيين على مدافع (الهاون) التي طالت المطار العسكري ومعسكرات الجيش.
وخلال عام 1966م قامت القوات البريطانية بحملات تفتيش، والمداهمات، والغارات التي لم يسبق لها مثيل، وعملت سياجاً في ضواحي عدن، وحدود المداخل، وأخضعت كل شيء للتفتيش بحثاً عن الأسلحة، ووسعت من الاعتقالات، فقد بلغ عدد المعتقلين في سجون عدن في يوليو 1966م نحو ألف معتقل سياسي، أما في سجون الولايات فحوالى (1500) معتقل.
ولم تستطع كل عمليات القمع إيقاف استمرار الثورة، فقد بلغ عدد العمليات أو الأحداث (868) أحدثت (573) إصابة، (258) بين قتيل وجريح في صفوف البريطانيين و(32) شهيداً و(283) جريحاً من بين الثوار ومناصريهم.
مرحلة الحسم.. والاستقلال
يمكن القول: إن عام 1976م شكل بالنسبة للثورة (14) أكتوبر عام الصراع. والحسم.. فقد واجه استئناف الجبهة القومية لوجودها المستقل معارضة شديدة من قبل جبهة التحرير، وجناحها العسكري التنظيم الشعبي للقوى الثورية، وتحولت إلى حملات اعلامية اذكت الصراع اكثر.. وفي الواقع كانت العوامل نفسية محضة لم تقف حوارات الوحدة الوطنية بل والحوارات التي أعقبت السلاح الجبهة القومية، فأعضاء الجبهة القومية لم يكونوا يصدقون أن القادة الذين وقفوا بشدة ضد الثورة المسلحة مطلقين عليها “ثورة الدراويش العرب”.
يمكن أن يقفوا بجدية واخلاص إلى جانبها وانهم فرضوا عن طريق دمج قسري. فرضته الاجهزة المصرية، وليس الحوار والإيمان بالوحدة الوطنية.
لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة للجبهة القومية أن تعيد استقلالها في ظل حرمانها من المساعدات الخارجية لكنها مضت على طريق الاعتماد على الذات معتمدة على ما بحوزتها من أسلحة وذخيرة، وقواعدها السرية والعلنية الصارمة التنظيم، واستخدام السلام الموجود لدى القبائل.
وفي 19 يناير 1967م بمناسبة ذكرى الاحتلال البريطاني لعدن، و11 فبراير بمناسبة مرور ثمانية أعوام على تشكيل اتحاد الجنوب العربي استعرضت الجبهة القومية قوتها وشعبيتها من خلال الاضطرابات، والمظاهرات وتصعيد العمليات العسكرية في عدن وبقية المناطق، ورغم محاولات جبهة التحرير عرقلة الاضرابات والمظاهرات في عدن إلا أنها منيت بالفشل مما أظهر الجبهة القومية بأنها لا زالت قوية وتتمتع بالتأييد الشعبي، في ظل دفع قيادة جبهة التحريرمقاتليها إلى مضايقة واستفزاز مناضلي الجبهة القومية والعناصر القيادية وفي 15 فبراير يوم الاحتفال بتأسيس الاتحاد العربي، خاض الفدائيون معركة مباشرة ضد القوات البريطانية والاتحادية في الشيخ عثمان، وبسبب نبرات المصفحات استشهد عدد كبير من مقاتلي الجبهة القومية وكان (عبود) من بينهم وشهد النصف الأول من عام 1967م منافسة شديدة في العمليات العسكرية في عدن بين القطاع الفدائي للجبهة القومية والتنظيم الشعبي مما جعل السلطات البريطانية المسؤولة عن الحفاظ على أمن المستعمرة عدن، وأسند لها التنفيذ الصارم لقانون الطوارئ.
وكانت أجهزت المخابرات البريطانية قد دفعت التشكيل «تنظيم الأخذ بالثأر» لبعض السلاطين لمواجهة الجبهة القومية وأدرك البريطانيون طبيعة الصراع بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، حول ذلك التنظيم فعملوا على اذكاء الصراع وإثارة الاقتتال بينهم.
في مطلع عام 1967م أخذت بريطانيا تفكر جدياً بالتواصل بمساعدة الأمم المتحدة التي قررت إيفاد بعثة إلى عدن في إبريل 1967م.. إلى اتفاق مع عبدالناصر الذي أعلن بحق استعداده، للإقدام على الحل السلمي لمسألة الجنوب وفي فبراير 1967م اقترح عبدالله الأصنج تشكيل حكومة مؤقتة في المنفى بما يعني أن قادة جبهة التحرير قبلوا بالبعثة بينما كان موقف الجبهة القومية المطالبة بالاستقلال ، وانطلاقاً من ذلك وقبل وصول بعثة الأمم المتحدة بأيام التحمت جبهة التحرير بالجبهة القومية لمعارضة وصول البعثة التي وصلت في الثالث من إبريل 1967م إلى عدن ولم تتمكن السلطات البريطانية من نقلها إلى الفندق الاَّ بواسطة طائرة هيلوكوبتر جراء المظاهرات التي سارت في الشوارع وطوقت المطار. وحمل المتظاهرون أعلام الجبهة القومية، وجبهة التحرير ومصر، وخلال وجود البعثة تنافست الفرق الفدائية التابعة للجبهة القومية والتنظيم الشعبي في الصدام مع القوات البريطانية والقيام بعمليات عسكرية في ظل إضراب شامل لم يتوقف خلال خمسة أيام.
ظلت البعثة حبيسة الفندق وحين أرادت زيارة سجن المنصورة لمقابلة المعتقلين السياسيين نقلت على مصفحة وحين دخل قابلهم المعتقلون بالتظاهر والهتاف بحياة الثورة وسقوط الاستعمار وفي خارج السجن كانت المعركة دائرة بين الثوار والقوات البريطانية التي تواجدت بكثافة وهكذا أفشلت بعثة الأمم المتحدة وغادرت عدن وقد بلغت الحوادث في ذلك الأسبوع (280) حادثة، كبدت القوات البريطانية (64) بين قتيل وجريح واستشهد واحد من الفدائيين وأعتقل (180) مواطناً وفي يونيو 1967م وجراء تحول هائل، أثناء العدوان «الإسرائيلي- البريطاني- الفرنسي» على مصر، استثارت مشاعر الجماهير وكانت البداية اضراباً طويلاً وتصاعدت العمليات العسكرية ضد القوات والمعسكرات البريطانية.
والأهم سيطرة الثوار بقيادة الجبهة القومية على مدينة كريتر ،في العشرين من يونيو بعد معارك ضارية كلفت الثوار استشهاد أربعة بينما قتل (12) وجرح (31) من الجنود البريطانيين وظلت مدينة كريتر تحت سيطرة الثوار حتى الرابع من يوليو، ورغم انسحاب الثوار إلاَّ ان المعارك لم تتوقف فقد وصلت إلى حد أن هاجم فدائيو الجبهة القومية دار المندوب السامي في الثالث والعشرين من أغسطس 1967م واستيلاء الجبهة القومية على كريتر، وإفراغ سجن كريتر من المعتقلين، وسطوها على بعض البنوك الأمر الذي حل أزمتها المالية، ما أثار أصداءً واسعة في الأوساط الشعبية في الخارج، ووصلت قوتها أن هاجمت دار المندوب السامي البريطاني مستخدمه مدافع «الماتور».. بعد انسحاب ثوار الجبهة القومية من مدينة كريتر، وضعت الجبهة القومية استراتيجية جديدة تعتمد على إحاطة مدينة عدن مركز تجمع القوات البريطانية بأرياف محررة بتكثيف العمليات العسكرية وإرهاق القوات البريطانية في كافة المناطق الريفية، ونجحت هذه الاستراتيجية، فقد بدأت الإمارات والسلطات تتهاوى أمام مقاتلي الجبهة القومية، كما نجحت في إشعال الكفاح المسلح في حضرموت والمهرة، وهكذا في شهر أغسطس حررت ثمان إمارات وفي شهر سبتمبر حررت خمس وحررت في نوفمبر بقية المناطق مما جعل القيادة البريطانية تسحب قواتها من المناطق إلى عدن وفي عدن اشعل مقاتلوها إلى جانب مقاتلي التنظيم الشعبي العمليات العسكرية والتي وصلت أن هاجم فدائيو الجبهة القومية في أغسطس دار المندوب السامي البريطاني بمدافع الهاون وأمام هذه الأوضاع في أوائل أكتوبر 1967م دعت الجامعة العربية كافة القوات الوطنية الى تشكيل حكومة انتقالية مركزية تتسلم السلطة من بريطانيا التي أعلنت أنها ستمنح الجنوب استقلاله في نوفمبر 1967م لكن رفضت الجبهتان القومية والتحرير تلك الدعوى وبسبب التنافس على السيطرة على دار سعد اندلعت حرب أهلية بين الجبهتين في سبتمبر 1967م ورغم الحرب الأهلية إلا أن ممثلي الجبهة دخلوا في العاشر من أكتوبر في القاهرة- في محادثات استمرت حتى السادس من نوفمبر وتم الاتفاق على التشكيل الحكومي وطالبت جبهة التحرير بإصدار بيان مشترك ورفضت الجبهة القومية لكن جبهة التحرير أصدرت البيان في 1/11/1967م فرفضت الجبهة القومية المحادثات ومن منطلق سيطرة الجبهة القومية على كل المناطق عدا عدن، وتم في كل منطقة تشكيل لجان شعبية لإدارة شؤونها، أعلنت أنها الممثل الشرعي والوحيد لشعب الجنوب.
أدى هذا التطور إلى اشتعال حرب أهلية ثانية بين الجبهتين في 2/11/1967م في عدد من أحياء عدن وأمتد إلى لحج وكرش، ذهب ضحية ذلك الاقتتال عشرات القتلى ومئات الجرحى، وفشلت كل النداءات لإيقافها مما اضطر تدخل الجيش الاتحادي ورأت قيادة الجيش أن الجبهة القومية أكثر تنظيماً وتمكنت قيادة الجيش من ضبط أعضائها، ولم تتمكن من ضبط أعضاء التنظيم الشعبي وفي(10) أكتوبر 1967م أعلنت قيادة الجيش تأييد الجبهة القومية وتدخل الجيش لصالحها وبذلك أصبحت الجبهة القومية الجبهة التي حظيت بأن تعترف بها بريطانيا للتعاون على الاستقلال وحسب المعطيات البريطانية أن عدد الحوادث خلال عام 1967م (2.908) حوادث تكبد البريطانيون (1248) بين قتيل وجريح، كما تكبد الثوار (240) شهيداً و(551) جريحاً
وخلال شهر نوفمبر بدأت القوات البريطانية بالجلاء في ظل محادثات الاستقلال في جنيف بين وفد الجبهة القومية برئاسة قحطان الشعبي الأمين العام، ووفد الحكومة البريطانية والتي استمرت في الفترة من 22 نوفمبر الى 29 نوفمبر وفي الـ (30) من نوفمبر أصبح جنوب الوطن كياناً مستقلا
> المراجـــع:
< عدن واليمن- تأليف السيد يرنارد باملي صدر عن وزارة المستعمرات البريطانية 1960م- لندن.
< التاريخ العصري لليمن، للمؤرخ سلطان عبده ناجي- صدر عام 1976م- الكويت.
< الحركة الوطنية في الجنوب اليمن المحتل 1945- 1987، للدكتور إبراهيم العبيدي صدر عام 1979م- بغداد.
< الجبهة القومية في الكفاح من أجل استقلال اليمن الجنوبي للمؤلف فيثالي ناوومكي- صدر عام 1984م- موسكو.
< الحركة الوطنية اليمنية من الثورة إلى الوحدة سعيد أحمد الجناحي- صدر عام 1992م.
مشاركة الخبر: 14 أكتوبر.. قصة ثورة على وسائل التواصل من نيوز فور مي