حكاية رجل هادئ
حارتنا واحدةٌ من حارات الدنيا الضيقة، التي لا تنتهي حكاياتها ولن تنتهي. وهنا أدوّن بعضاً من تلكمُ الحكايات.
(1): حكاية "المفكّر الراحل"
بالأمس مات أعظم عقل مفكّر في الحارة، مات في هدوءٍ، داخل بيته المتواضع في أقصى الحارة. ذهبتُ في جنازته التي كانت بسيطة بما يليق بمفكّر لم يكن يهتم ببهرج الدنيا إطلاقًا. لكن الغريب ما حدث أثناء وبعد دفنه، إذ تعالت الأصوات في رثائه من أناس لم يكونوا يعيروه أيّ اهتمام في حياته!
حياة الرجل كانت صاخبة، لما لمعاركه الفكريّة من صدى، لكنه لم يكن مُحتفى به من السلطات السياسية التي كانت تناصبه العداء وتتحمّل آراءه فيها على مضض. أما أصدقاؤه الذين ظهروا على وسائل الإعلام بعد وفاته، وكلّ واحد منهم يقصّ بعض مواقفه مع الفقيد، فلا أعرف من تلك الوجوه وجهاً مألوفاً ممّن كانوا يرتادون بيت الفقيد.
كيف صار "الفقيد العظيم"! وهو الذي كانت تتجاهله وسائل الإعلام الرسمية، ولولا صداه خارج الحارة، لما ذكَرَته بالمرة؟! فيما اليوم يشيدون بمناقبه وبفكره الثاقب الذي سبق زمانه!
يا سبحان الله.
مات الرجل لأنّ السلطات لم تهبه منحةً مالية لاستكمال علاجه خارج الحارة على الرغم من كلّ المناشدات. وهنا تذكرتُ قول محمود درويش:
يُحبُّونَنِي مَيِّتاً
لِيَقُولُوا: لَقَدْ كَان مِنَّا وَكَانَ لَنَا.
(2): حكاية "رجل هادئ"
في حارتنا شخص هادئ للغاية، لا تكاد تسمع له نأمة، كأنّه الهدوءُ مُجسّداً في شخص رجل!
ومع هذا الهدوء المتناهي فقد كانت حياته صاخبة، إذ تسنَّم عدّة مناصب إدارية. وفي كلّ منصب، مع كلّ الضجيج الذي يرافق أيّ منصب إداري كما نعلم، كان سَمْتُ الرجل الهادئ طاغيًا عليه، إذ يدير عمله بمنتهى الدقة والهدوء في حين يشتعل خصومه احتراقاً.
هل كان الرجل مخطئاً في هدوئه؟ أم إنّ الدنيا لا تستحق كلّ هذا الضجيج الذي نُحدِثُه من أجلها؟!
مرّت سنوات والرجل يواصل حياته الهادئة مع كلّ العواصف التي تحيط به إلى أن وصل التقاعد ثمّ رحل عن الدنيا بهدوء.
وقفتُ على قبره أتساءل: هل كان الرجل مخطئاً في هدوئه؟ أم إنّ الدنيا لا تستحق كلّ هذا الضجيج الذي نُحدِثُه من أجلها؟
(3): حكاية "سائق الباص"
إنّه أحد سائقي حارتنا المناضلين!
أقول: المناضلين لأنّ النضال ليس في السياسة فقط، بل في الحصول على لقمة العيش في هذا الزمان، حيث لا تكاد تُنال إلا بطلوع الروح.
صاحبنا يعمل منذ أكثر من عشرين سنة على حافلته الصغيرة المتهالكة، والتي تُسمّى بلهجتنا العامية الباص، كونه أحد المغتربين الذين طُردوا من الخليج بعد حرب الخليج الأولى عام 1990، وذلك نتيجة طبيعية في عالمنا العربي الكسير، حيث تدفع الشعوب ثمن مغامرات السياسيين.
النضال ليس في السياسة فقط، بل في الحصول على لقمة العيش في هذا الزمان، حيث لا تكاد تُنال إلا بطلوع الروح
المهم، منذ ذلك الحين وهو يذرع شوارع حارتنا بباصه طوال اليوم وجزء من الليل من أجل تسديد إيجار بيته ومصروف أولاده الخمسة وأمهم، ولا ننسى مصاريفه الشخصية التي ينفقها على القات والدخان كلازمةٍ لأيّ سائق عصري.
وطوال تلك الفترة لم يخلُ عملُه من المنغصات التي تُرافق كلّ مهنة، هنالك مهاتراته مع رجال المرور، السنافر كما سمّيتهم، بخلاف منافسيه من سائقي الحارة الآخرين، في زمان ساءت فيه أخلاق المجتمع، ولم تعد مهنة السواقة "فن وذوق وأخلاق"، بل صارت شيئاً آخر.
قالت إحدى السائحات الألمانيات عن السواقة في اليمن: إنه فن الدفاع عن النفس!
أخيراً، نحن نسمّي كلّ سائق عندنا سوّاقاً، وهذا خطأ صرفي، فالسوّاق صيغة مبالغة من سائق، وهو الذي مارس مهنة السواقة فترة طويلة، فأصبح متقناً لها عن جدارة، لكن الذين في حارتنا لا يكادون يرتقون إلى لفظة "سائق" حقيقةً!
***
(4): حكاية "المتكبِّر"
هو واحد من رجال الحارة المشهورين، لكنه يرى نفسه فوق الخلق، فتراه شامخاً بأنفه، وهو يمشي في تبختر يليق بطاووس وليس بإنسان جاء من ماءٍ مهين؛ ومن حوله حاشيته الذين يرافقونه إمعاناً في صنع الهيلمان والفخامة..
ما أعرفه عنه أنه وارثٌ عن والديه ميراثاً ضخماً أعفاه من هموم الحياة المعاصرة، وجعله متفرّغاً لنزواته وغزواته في دنيا المتع والملذات.
بيد أن تكبّره المبالغ فيه جعل الكل ينفضُّ من حوله، وهو يتعالى على الأقارب قبل الأباعد في صلفٍ وغرور، فلم يبقَ حوله إلّا طلّاب الفتات من أراذل القوم الذين لا تفرق معهم حياة كريمة عن حياة ذليلة، المهم ما يمشّي اليوم، بحسب تعبيرهم.
دارت الأيام، وتبدلت الأحوال، وصحت الحارة يوماً على إشاعة أنّ كلّ ممتلكات الرجل صُودرت، وصار لا يملك شَرْوَى نقير، أما لماذا حدث ذلك، فلا أحد يعلم السبب، خصوصاً في حارتنا التي يلعب المجهولُ دوراً عظيماً في تفسير أحوالها.
ولله في خلقه شؤون، وتستمر الحكايات..
مشاركة الخبر: حكاية رجل هادئ على وسائل التواصل من نيوز فور مي