مجازر مخيم جباليا| حكاية تشبث عائلة السنوار بالأرض حتى الشهادة (6)
لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم. ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء.
قبل نحو أربعين عاماً، عقد أبي خليل أبو الطرابيش قرانه على أمّي، ومما ذكره لي قبل رحيله أن صديقه وجاره نعيم السنوار، كان شاهداً على الخطوبة، ثم تكلّف لاحقاً بترتيبات حفل الزفاف الذي أقيم في إبريل/نيسان عام 1986.
ولخلو مخيم جباليا قديماً من صالات الأفراح، فقد كان السائد هو اجتماع النساء في أكبر منزل بحيث يتزين بالثوب الفلسطيني وينقشن الحناء على إيقاع الأغاني التراثية والوطنية ليتم إحياء حفل الزفاف لليلة أو لثلاث ليال متتاليات، وأحيانا كانت تنصب خيمة طولية مغطاة من الجوانب الأربعة في أحد الشوارع بالمخيم.
كان والدي يصف نعيم السنوار بـ "الدينامو" لنشاطه وطاقته في حفل زفافه، كما أنني في كل مرة كنت ألتقيه في أزقة المخيم يخاطبني مازحاً :"أنا زوجت أمك لأبوك.. قل شكرا".
اشتغل نعيم في فترة شبابه عامل بناء في الأراضي المحتلة إلى حين منع العمال الفلسطينيين من دخولها في بداية الانتفاضة الثانية حيث أصبح عاطلا من العمل، خاصة أنه المعيل لثمانية أبناء في ذلك الوقت، فما كان منه إلا أن أخذ دورات مكثفة ومتخصصة في الإسعافات الأولية وقيادة سيارة الإسعاف، ثم عمل سائق إسعاف في مشفى الهلال الأحمر الواقع في منطقة تل الهوى جنوب مدينة غزة.
نعيم ابن مخيم جباليا من بلدة المجدل المحتلة، عرف بأنه اجتماعي جدا، ربط علاقات طيبة مع الصغير قبل الكبير، كانت لديه عفوية ممزوجة بحس فكاهي عال في الحوار. وربما لا أبالغ إن قلت إن أقرب توصيف له كان "أبو الجميع" وخاصة من هم في جيلي بالمخيم. كما أن من بين ألقابه المتداولة بيننا "صيدلية الهوجا"، كناية عن حرصه الكبير على توفير الأدوية لفقراء المخيم، وتقديم أي مساعدة أو إرشادات لكل سائل.
التمسك بالأرض حتى الشهادة في مخيم جباليا
كان العم نعيم يسكن في منزل في مقدمة شارع الهوجا بمخيم جباليا شمالي قطاع غزة، الطابق الأول تعيش فيه أمه مريم (84 عاما) وهي عمة الشهيد يحيى السنوار رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وكانت تزوره في فترة اعتقاله، عوضا عن والدته التي فارقت الحياة. وفي الطابق الثاني يعيش العم نعيم مع زوجته ومن تبقى من أبنائه غير المتزوجين. أما الطابق الثالث، فيسكنه شقيقه حسن (46 عاما)، وزوجته هدى (40 عاما)، وأربعة أبناء.
كان حسن السنوار شقيق نعيم، وهو ضابط يمتاز بالصمت معظم الوقت والهدوء، ومع ذلك فإنه لا يتوانى عن تقديم النصيحة. لديه ابن يدعى صلاح (21 عاما)، نلقبه بـ "عالم الحارة"، لاهتمامه الكبير بعلم الزواحف وحلمه بأن يصبح عالما كبيرا في هذا المجال.
كان لكل فرد من أفراد السنوار شخصيته واهتماماته وأحلامه... وعقب توزيع جيش الاحتلال منشورات تفيد بإخلاء فوري لمخيم جباليا والتوجه إلى محافظات الجنوب، حينها خرج الشقيقان حسن ونعيم إلى الشارع يطالبون الناس بالمكوث في منازلهم والتراجع عن فكرة النزوح.
استجاب له من استجاب ورفض من رفض؛ بدأت الأحزمة النارية تنهال على المخيم وبصحبتها القذائف المدفعية، التي تزامنت مع انقطاع كامل للاتصالات وشبكات الإنترنت على مناطق الشمال، استمر الحال لمدة أسبوعين. وحين عادت الاتصالات بشكل تدريجي، صدمنا من خبر قصف منزل عائلة السنوار وارتقاء جميع من فيه، عُرف لاحقا أن استهداف المنزل كان صبيحة تاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول عام 2023.
قصة مجزرة السنوار ستبقى عالقة في أذهان أهالي المخيم، فالعائلة دفعت ثمن الثبات والصمود دماءها. ولأزيد من ثمانية أشهر، لم يتم إخراج جثامين شهداء عائلة السنوار، لأسباب أولها استهداف الجيش لجميع آلات الحفر في شمال غزة، إلى جانب أن المنطقة أصبحت خطرة جدا على كل من يتحرك هناك.
حين تمكن رجال الدفاع المدني من انتشالهم بعد تلك المدة، أخرجوهم عبارة عن رفات، وجرى دفن العم حسن وزوجته وأطفاله الأربعة في قبر، والعم نعيم وأمه في قبر.
ما تبقى من عائلة السنوار في مخيم جباليا، توزعوا على منازل محاصرة في شمال غزة، تموت في اللحظة مائة مرة، وسط هذه العملية العسكرية المفروضة على شمال غزة بكل الوسائل والتكتيات العسكرية. يقول إبراهيم السنوار (34 عاما)، وهو الابن الأصغر للعم نعيم: "بعد رحيل والدي وجدتي وعمي وعائلته، لم يبق لنا سوى التمسك بالصبر والصمود، فأمام هذا الشعارين دفع والدي وعائلتي دماءهم".
فيما يلي قائمة شهداء عائلة السنوار: نعيم إبراهيم السنوار (62 عاما)، الحاجة مريم السنوار (84 عاما)، حسن السنوار (46 عاما)، هدى السنوار (40 عاما) صلاح حسن السنوار (21 عاما)، مرح حسن السنوار (18 عاما)، ريم حسن السنوار (14 عاما)، مريم حسن السنوار (خمسة أعوام).
مشاركة الخبر: مجازر مخيم جباليا| حكاية تشبث عائلة السنوار بالأرض حتى الشهادة (6) على وسائل التواصل من نيوز فور مي