ترامب وبانون وعقيدة "الولاء والبراء"

لدى عراب الشعبوية الأميركية ستيف بانون، وصف يعبر بدقة عن الرئيس دونالد ترامب، الذي خدم خلال إدارته الأولى كبيرا لمستشاري البيت الأبيض الاستراتيجيين، إذ يشبهه بـ"آلة بسيطة، مفتاح تشغيلها الإطراء، ومفتاح إطفائها الانتقاد اللاذع"، وهو ما يفهمه كثير من المحيطين بالرئيس العائد من جديد، ولا يتوقفون عن الثناء على حكمته حتى لا يصيبهم ما نال بانون والعديدين من أركان إدارة ترامب الأولى إقالة أو استقالة.

الجميع يحرص على مفتاح التشغيل هذا، وأولهم رؤساء وقادة الدول الذين تباروا في تهنئة ترامب وتنظيم اللقاءات مع المحيطين به عقب فوزه في الانتخابات الأخيرة، وبينما يبقى ما جرى في تلك اللقاءات أو المكالمات خفيا إلا أن واحدا منها نشره حساب الرئيس الإندونسي برابوو سوبيانتو الرسمي على منصة إكس. والرجل عسكري متقاعد، ومحسوب على القوميين في بلاده التي تعد أكبر دولة إسلامية، لكن طريقة حديثه مع ترامب تعبر بدقة عما ذكره بانون، فقد ظهر الجنرال متملقا، وكرر كلمة سيدي عديد المرات طوال المكالمة، قائلا لمن يفترض أنه نظير له "أينما كنت، فأنا على استعداد للقدوم لتهنئتك، سيدي"، وعندما رد عليه ترامب أن إنكليزيته جيدة بدا منتشيا "تلقيت كل تدريبي في الولايات المتحدة، سيدي"، في إشارة إلى تجربته العسكرية هناك في الثمانينيات.

يتضح تشبيه بانون أكثر عندما نتأمل كيف يختار ترامب من يعملون معه، وفق معيار شديد البساطة يقوم على ذاته قبل بلاده، ويمكن وصفه بعقيدة "الولاء والبراء"، فلا يهم ما إذا كنت خبيرا أو مختصا في ملف ما، طالما أنك من الموالين، ولا يكفي هذا، بل عليك أن تشاركه البراء من خصومه وأكثرهم خطرا ما يصفه بـ الدولة العميقة، فالرئيس السابق - الحالي لا يثق في واشنطن ومؤسساتها التي يدخل إليها هذه المرة مسلحا بأغلبية في الكونغرس بمجلسيه ما يحد من الكوابح التي كان يمكن أن تمنعه من اتخاذ قرارات متهورة أو غير متوقعة وفي أي وقت كما يحلو له، منها مثلا ما خص منطقتنا خلال فترة رئاسته الأولى، إذ قرر سحب الجيش الأميركي من سورية خلال عطلة رسمية في البلاد، وفوجئ الجميع في واشنطن بالأمر، حتى أن أقرب مساعديه عرفوا بالقرار من تغريدة لحساب الرئيس على "تويتر".

هذه المرة ربما يتحقق القرار على أرض الواقع، من يدري؟ فقد بدأت تسريبات عن حديث تركي قديم - جديد بالتكفل بمحاربة "داعش" وزادت عليه أنقرة تولي مسؤولية مقاتلي التنظيم المسجونين لدى ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية في مقابل إنهاء الدعم الأميركي للأكراد ما يعني عمليا الانسحاب من سورية، ولعل الرئيس المنتخب يقبل هذه المرة، إذ تسيطر أفكار الانعزالية بشكل أكبر عليه وفريقه وهي ليست بدعة ترامبية بل لها جذور أميركية يمكن اختصارها باقتباس من بانون "لتحل اللعنة على الجميع، لا نريد التدخل".

تعكس طريقة التفكير والتصرف هذه عقلا عاطفيا emotional إلا أنه في الوقت ذاته استعراضيا لا يقبل أن يسرق أحد الأضواء منه ولا يثق إلا في ذاته وبعدها المقربون غير مبال بالمؤسسات وخبرتها وتوصياتها، ولا يوجد تعبير أفضل مما قاله بانون لمايكل وولف مؤلف كتاب "نار وغضب"، الذي استند إلى شهادة مساعدي الرئيس خلال فترة رئاسته الأولى، بأن من يجلس في البيت الأبيض "قرد ضخم ذو قلب حنون"، متملق ويحب من يتملقه، فترامب مثل أي بائع يطري على أي زبون محتمل وفي حال استبعاده بصفة شارٍ محتمل يزدريه وقد يرفع الدعاوى ضده.

أي أن الترامبية جوهرها أنها غير متوقعة ومتناقضة ولا توجد مسلمات لديها وتبحث عن صفقات "ضخمة" كما يحلو للرئيس قبل وبعد دخوله البيت الأبيض وصف أعماله، ومن هنا يمكن فهم لقاء السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة بالملياردير إيلون ماسك أهم المقربين من الرئيس المنتخب والذي يبدو وكأنه الابن الذي لم ينجبه، وما تلاه من خطاب نائب الرئيس جواد ظريف الذي بدأه بكلمتي سلام و"شالوم" ووجهه إلى يهود العالم ووربما يتبع ذلك خطوات أخرى، ويأتي هذا بعدما قال ترامب والمقربون منه إنه لا يدعم الحرب الشاملة مع إيران ويريد التفاوض معها ولكن وفق شروط، وقبل ذلك صدرت تصريحات عن القيادي في حركة حماس، سامي أبو زهري بأن فوز ترامب بالمنصب "يجعله أمام اختبار لترجمة تصريحاته بأنه يستطيع وقف الحرب خلال ساعات"، وهذا إن حدث سيكون إنجازا سياسيا، لكن تحققه يبدو صعبا في ظل تأثير الدوائر الصهيونية المقربة من ترامب، فقد كان نتنياهو أول المهنئين والمباركين والذي يفهم جيدا كيف يتعامل مع ترامب نفسيا وسياسيا.

أضف إلى ذلك أن ترامب كانت له أثناء الحملة الانتخابية تصريحات متناقضة بشأن فلسطين، مرة إن على نتنياهو أن ينهي وينجز مهمته في إشارة إلى القضاء بأي ثمن على المقاومة في غزة، ثم عاد وتعهد بوقف الحرب، وهذه التناقضات تعبر عما ينتظر منطقتنا التي لا تمتلك مصيرها، والذي تحدده ترشيحات الرئيس التي يعلن عنها وإن كانت كذلك مليئة بتناقضات ترامبية، فمجلس الأمن القومي رشح له مايكل والتز، الذي يفترض أن يتولى رئاسته، والرجل سبق أن قال "الحل السلمي في سورية لن يكون ممكنا طالما ظل بشار الأسد في السلطة"، ولكن تولسي غابارد، مرشحة ترامب والتي ستشارك في الاجتماعات بصفتها مديرة للاستخبارات الوطنية سبق أن التقت بالرئيس السوري، وزعمت أن "الأسد ليس عدوا للولايات المتحدة، لأن سورية لا تشكل تهديدا مباشرا للولايات المتحدة".

كذلك مايك روبيو الذي أعلن عن ترشيحه وزيرا للخارجية رغم أنه قد يصطدم مع تولسي غابارد وسبق أن انتقدته بشأن أفكاره واتهمته بالتحريض على الحرب، وكذلك مرشح ترامب لوزارة الصحة روبروت إف كينيدي جونيور يريد تنظيما صارما لصناعات الأدوية، وهو ما يتناقض مع تصريحات ترامب حول تقليص نفقات الحكومة وهي مهمة إيلون ماسك وفيفك رامسوامي لقيادة جهود خفض التكاليف.

في كل الأحوال، لم تقل واشنطن كلمتها بعد، والمؤسسات الأميركية تتسم بالقوة ويمكنها إضعاف السلطات الرئاسية وتقليصها كما أنها مجهزة لاستيعابها والتوافق معا، غير أن هذه التناقضات أتصور أنها مقصودة حتى تصب كل الخيوط عند ترامب ولا يستطيع أحد اتخاذ قرار دون إرادته وإن حاول فإن مصيره لن يختلف كثيرا عن ستيف بانون.

مشاركة الخبر: ترامب وبانون وعقيدة "الولاء والبراء" على وسائل التواصل من نيوز فور مي