"أن تكون إنساناً" للويس دارتنيل.. تدخّل علم الأحياء في أحداث التاريخ
صار الإنسان يكتب الروايات، يؤلّف مقطوعات موسيقية، يرسل المركبات الفضائية إلى القمر. لكن، في العمق، تنبثق الإرادة الإنسانية كلّها من ضربة حظ لا تُذكر عادةً، قاد تفاصيلها علمُ الأحياء. فعلى سبيل المثال، لو لاحظنا لماذا نعدُّ النقود في وحدات عشرية، فإن ذلك يعود إلى علم الأحياء الذي يقول لنا إننا طوّرنا نظام تحديد الأعداد بناءً على الأصابع العشر التي يمتلكها الإنسان.
وهكذا، إضافة إلى تحديد نظام الأعداد، فإنَّ طبيعتنا المادية الخاضعة للتطوّر والتي تختلف باختلاف ظروف كوكبنا الفريد، قد أدت إلى تراكم الاحتمالات الصغيرة التي شكّلتنا، وشكّلت أحداث التاريخ العظيمة، وكذلك أحداثه غير المهمة.
هذه هي أطروحة عالم الأحياء البريطاني لويس دارتنيل في كتابه "أن تكون إنساناً: كيف شكّلت بيولوجيتنا تاريخ العالم"، الصادر عن "The Bodley Head" البريطانية، والذي يحاول من خلاله الإجابة عن أسئلة مثل: "كيف ظهر الدين؟ ما أسباب الثورة الروسية؟ ما هو أصل المافيا الصقلية؟ بجملة بسيطة هي: إنّه علم الأحياء، أيها الأغبياء!".
يشرح لنا الكاتب كيف حرّكت البيولوجيا حياة البشرية وخلقت قدراتنا الاستثنائية في الحياة التي نعرفها، لكنها أيضاً خلقت فينا عيوباً كثيرة ونقاط ضعف. هذا التناقض الاستثنائي بين قدراتنا ونقاط ضعفنا هو جوهر ما يعنيه أن نكون بشراً. وقد لعب التاريخ دوره في تحقيق التوازن بينهما.
التناقض بين قدراتنا ونقاط ضعفنا هو جوهر ما يعنيه أن نكون بشراً
تبعاً للكاتب، إن التطوّر يميل إلى تفضيل المجموعات البشرية التي يتعاون فيها الأفراد مع بعضهم بعضاً، فميلُنا إلى الإيثار منقوش بعمق في جيناتنا: فالمبادئ الأخلاقية لن تُستمد من العقل على طريقة كانط، بل من طبيعتنا الشبيهة بالقردة. وفي وقت لاحق كانت ستتشكّل في شكل قواعد أخلاقية أو دينية.
هنا، يروي دارتنيل قصتنا من خلال عدسة هذه الطبيعة الهشّة الفريدة لأول مرة. من التحيزات المعرفية إلى الأمراض المستوطنة، يستكشف صاحب كتاب "الأصول: كيف صنعتنا الأرض؟" (2019) كيف ساهمت البيولوجيا البشرية في تشكيل العلاقات والمجتمعات والاقتصادات والحروب في جميع أنحاء العالم، ويخبرنا أننا في الواقع مسالمون بشكل غير عادي مع كون أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ استخدموا "العقاب" لمحاسبة منتهكي القواعد، وبالتالي قاموا ببناء حضارة مبنية على مستويات مذهلة من التعاون والمعاملة بالمثل.
ويوغل الباحث في إبراز دور البيولوجية في تسطير تاريخ البشرية، حيث يورد كثيراً من السوالف، ومنها على سبيل المثال قتل الموت الأسود "الطاعون" ما يقرب من نصف سكان لندن في عام 1348 وكيف أجهضت الملاريا والحمّى الصفراء أول خطة لبناء قناة بنما من قبل الإسكتلنديين في القرن السابع عشر، كما يجادل بأن مخاطر العدوى المنتشرة خلال القرون الوسطى بأمراض مختلفة أدّى بالقوى الاستعمارية إلى استغلال المناطق شبه الاستوائية والتشبث بالموانئ الساحلية وشحن السكر والبن بدلاً من الاستقرار داخل بلادهم.
هناك مثال آخر يورده الكاتب البريطاني على تأثيرات البيولوجيا، فقد أدى عدم قدرة البشر غير المعتادة على صنع "فيتامين سي" الخاص بهم داخل الجسم، إلى أن يتمتع البحارة الذين يتغذون بعصير الليمون في البحرية الملكية البريطانية بميزة واضحة على الفرنسيين والإسبان الذين يعانون من الإسقربوط وذلك خلال حروب البحار. هكذا امتلك الليمون قيمة كبرى، الأمر الذي دفع إلى تشجيع الزيادة في زراعتها الحمضيات في جزيرة ينعدم فيها القانون مع انتشار عملاء الأمن الخاص الذين قاموا بالمراقبة، لكنهم سرعان ما بدأوا بالابتزاز وتهديد المزارعين. هكذا ولدت المافيا الصقيلية، التي تم تخليد أحفادها الوهميين في روائع مثل "العراب".
كذلك يتناول دارتنيل، من بين أمور أخرى، الثورة الروسية، وتوسّع الديانة المسيحية، وبناء الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أنه في بعض الأحيان يجهد العلاقات السببية قليلاً، إلا أن كتابه يسلط الضوء على بعض الأحداث الرئيسية التي صنعت تاريخنا.
لويس دارتنيل Lewis Dartnell هو باحث وعالم أحياء بريطاني، يعمل أستاذاً في "جامعة ويستمينستر" باختصاص علوم التواصل. من مؤلفاته: "المعرفة: كيف نعيد بناء عالمنا من الصفر"، و"الأصول"، وغيرها من الكتب التي تبحث علاقة العلوم الطبيعية والتاريخ ومسيرة البشرية.
مشاركة الخبر: "أن تكون إنساناً" للويس دارتنيل.. تدخّل علم الأحياء في أحداث التاريخ على وسائل التواصل من نيوز فور مي