ديستوبيا "السكان الأصليين"
"لا أعلم كيف يمكن إسعاد الفلسطينيين، لكن هل حاول أحدهم منحهم نوادي مقامرة؟". بهذه النكتة، تبدأ الكوميديانة إدريان أبالوتشي عرضها الذي بثته "نتفليكس" تحت عنون Adrienne Iapalucci: The Dark Queen من إخراج لويس سي. كيه. لتتابع بعدها في سلسلة من النكات "السوداء" التي تتجاوز كل المحرمات التي تبنتها ثقافة الصوابية السياسية، في ما يخص الإجهاض والعابرين جنسياً، وحقوق النساء، إلخ.
ما زالت أبالوتشي "جديدة" في عالم الكوميديا، إذ سبق لها أن شاركت في عرض The Degenerates، وبثت عرضاً آخر لها على "يوتيوب" عام 2021. ما يهمنا هو نكتة "السكان الأصليين"، ليس بسبب قيمتها الكوميدية، بل بسبب عبارة "السكان الأصليين" نفسها التي تظهر لاحقاً في النكتة، وتحيل إلى اكتمال الإبادة وانتهائها، وتحول الفلسطينيين (الغزيين تحديداً)، إلى وضعية تشبه وضعية "الأميركيين الأصليين" الذين منحوا "محميات" خاصة بهم، أقاموا عليها نوادي قمار، لكونهم لا يدفعون ضرائب في هذه "المحميات".
المعنى بالعربية لكلمة السكان الأصليين، لا يحمل ذات المعاني السياسية كما في اللغة الإنكليزية، لكونها تشير إلى إتمام الإبادة، وتحول الفئة التي أبيدت إلى أقلية لا بد من حمايتها وتعطيل فاعليتها السياسيّة، أي أشبه بمساحة مسوّرة تخصهم فقط، ما يعني تحويلهم إلى أقلية لا دور لها سوى التقاط ما تبقى من هوياتها التي أبيدت. هذا التصنيف يعطل العلاقات والهويات الفلسطينية المختلطة، سواء في المنطقة العربية أو في بلدان الشتات الفلسطيني، وترسيخ غياب الأرض، علماً أنها موجودة، والفلسطينيون موجودون، داخل الأراضي المحتلة وخارجها، وعمليات الإبادة والاستعمار ما زالت مستمرة أمام أعيننا الآن، فضلاً عن أنها تشير إلى عملية انتهاء الاحتلال، وأن من "نجا"، أي أولئك الذين فقدوا أرضهم، يمكن تعويضهم عبر إعفائهم من الضرائب.
حسّ الدعابة الساخر والقاسي لِأبالوتشي لا يخلو من الانتقادات السياسية للولايات المتحدة وعلاقتها بإسرائيل بوصفها "ابن أميركا"، في حين أن أوكرانيا "الابن المتبنى"، ما يشير إلى اختلاف المعاملة بين الاثنين. إلى جانب أن السياسة الأميركية الآن لم تعد تجادل في مواقفها من دعم إسرائيل الكامل، وذاك المتلكئ في ما يخص أوكرانيا، خصوصاً حين قرّر جو بايدن أن يسمح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة بعيدة المدى لقصف روسيا.
لكن لماذا قراءة السياسة عبر الكوميديا؟ لأنه ببساطة في الحالة الأميركيّة، تحول الكوميديون والساتيريون إلى مصدر للأخبار، ومرشحو الرئاسة أصبحوا ضيوفاً على البودكاستات المتعددة لشرح سياساتهم ومخاطبة شريحة أوسع. ومن هنا تأتي أهمية الإشارة إلى تطبيع مفهوم "السكان الأصليين"، لكونه ذا أثر سياسي، يظهر شكله الديستوبي في التسريبات التي تشير إلى أن نتنياهو سيتعاقد مع شركات مرتزقة عسكرية تعمل في قطاع غزة، لتخلق أقفاصاً محميّة، يمكن دخولها فقط للغزيين عبر بصمات العين لنيل المساعدات. سيناريو استعماري بحت، يتعامل مع الغزيين ككتلة بشريّة فائضة عن الحاجة، يكفي فقط الحفاظ على حياتها، كما كان يحصل مع السكان الأصليين في كندا والولايات المتحدة.
المفارقة في النكتة أيضاً، وبعدها السياسي، أن الجهة التي تمنح ترخيص "نوادي المقامرة" لـ"السكان الأصليين" هي ذاتها المسؤولة عن إبادتهم ومصادرة أراضيهم وتحويلها إلى "محميات". نحن مجرّد صفقة ما بعد إبادة، لكنها في الحالة الإسرائيليّة، تتجلى بابتزاز أميركا ضمن معادلة "السلاح لإسرائيل مقابل إدخال المساعدات للغزيين". أما خطة الما بعد، فلم توفر حكومة بنيامين نتنياهو والمتشددين فرصة للحديث عنها، وهي طرد الغزيين واستيطان غزة.
مشاركة الخبر: ديستوبيا "السكان الأصليين" على وسائل التواصل من نيوز فور مي