"فرانتوماليا" إيلينا فيرانتي: مراسلات 25 عاماً
قبل أن تنشر روايتها الأُولى، مطلع تسعينيات القرن الماضي، قرّرت الكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي أن تبقى اسماً مكتوباً ليس لصاحبته وجهٌ مرئي. تعاون معها في ذلك ناشراها الزوجان ساندرا أوتزولا وساندرو فيري، اللذان كانا قد أسّسا حديثاً منشورات "ي/و"، واستمرّت بذلك بعد دخول العالم "عصر الصورة" الذي كرّسته وسائل التواصل الاجتماعي، حيث الكلّ يكتب ويسوّق نفسه وكتبه كالسلع ويجمع المعجبين، بل زادت تمسّكاً بهذا الخيار بعد نجاحها اللافت، رغم الإغراءات التي عُرضت عليها، والإلحاح في الحصول على أجوبة عن الأسئلة المتكرّرة المتعلّقة بخيارها هذا، والتي لا تخلو منها واحدةٌ من المقابلات العديدة التي أجرتها، والتي نقرأ أبرزها في كتاب "فرانتوماليا: استجواب الكتابة"، الصادرة ترجمته حديثاً عن "دار الآداب"، بتوقيع معاوية عبد المجيد.
إلى جانب المقابلات التي دأبت على إجرائها عبر البريد الإلكتروني مع وسائل إعلام مقروءة من مختلف أنحاء العالم بعد رواج رواياتها وترجمتها إلى عدد كبير من اللغات، يضمّ الكتاب مجموعة من المراسلات بين الكاتبة وناشرَيها حول مشاريع الروايات التي تعمل عليها، وأُخرى بينها وبين المخرجِين وكتّاب السيناريو الذين عملوا على تحويل رواياتها إلى أفلام أو مسلسلات، وقد أُضيفت إلى كلّ طبعة جديدة من الكتاب المقابلات التي أُجريت بعد طبعته الأخيرة، ما جعل صفحاته تزداد عدداً حتى بلغت قرابة خمسمئة في الترجمة العربية عن الطبعة الإيطالية الأخيرة، وجعلها تغطّي خمسة وعشرين عاماً من عمر الكاتبة المتوارية، بين عامَي 1991 و2016.
بدأت التساؤلات الإعلامية حول فيرانتي بعد فوز روايتها الأُولى "الحبّ المقلق" (1993) بـ"جائزة إلسا مورانته"، كاتبتها المفضّلة؛ حتى إنّها جعلت اسم شهرتها المستعار على وزنها. لم تحضر فيرانتي حفل منح الجائزة، واكتفت بإرسال كلمة مكتوبة. تحوّلت بعدها الرواية إلى فيلم على يد المخرج ماريو مارتونه، فازداد الفضول حولها، وتضاعف بعد صدور رواياتها اللاحقة، خاصّة رباعية "صديقتي المذهلة"، التي تحتفي بالصداقة في عالم الفتيات شديد الغيرة والحساسية، وهو الموضوع الذي قلّما تناوله الأدب، ناهيك عن أن يفرد له سلسلة من الروايات.
تردُّ تواريها إلى رغبة عصابية لديها بألّا تُمسّ
تنتقد فيرانتي الكسل الذي يسود الصحافة الثقافية بشكل عامّ، حيث اسم الكاتب هو من يحدّد التعامل مع نتاجه لا جودة هذا النتاج، الذي لا تمكن معرفته من دون قراءته. لمست الكاتبة ذلك في بداية مسيرتها، من خلال طلب الصحافي فرانشيسكو إرباني إجراء مقابلة معها بخصوص روايتها الأُولى، وتصريحه بأنّه كان قد التقط الرواية وتصفّحها قبل مدّة، لكنّه لم يقرأها أو يهتمّ بكاتبتها حتى سمع أنّ المخرج الشهير ماريو مارتونه يعمل على كتابة سيناريو مقتبس منها، الأمر الذي جعل فيرانتي ترفض إجراء مقابلة معه وتوجّه له رسالة ساخطة.
تميل إجابات فيرانتي في مقابلاتها الصحافية إلى الطول، كأنّها لا تستطيع ردع نفسها عن الاستسلام للذّة السرد. هي كثيرة الاستطرادات والاستشهادات، يمكن أن تضع اقتباسات من عدّة صفحات. تروي في إجاباتها حوادث وقصصاً من طفولتها لتوضح إجابةً معيّنة أو تُثبت وجهة نظرها، كما أنّ رغبتها بالتواري امتدّت لتشمل آراءها ومواقفها، فهناك عددٌ من رسائلها الطويلة، التي بذلت في كتابتها جهداً ووقتاً، وأوردت فيها ملاحظاتٍ على أمور هامّة، أو قدّمت إيضاحات بخصوصها، بقيت من دون أن ترسلها إلى من كُتبت إليه، من دون أن يكون لذلك سبب واضح، إلى أن تمّ الكشف عنها في هذا الكتاب.
هناك العديد من الأسئلة المتكرّرة في المقابلات، تتمحور حول الحياة الخاصّة لفيرانتي، التي ظلّت تثير فضول الصحافيّين والقرّاء. تؤكّد الكاتبة أنّ بقاءها بعيداً عن الأضواء يعود إلى رغبة عصابية لديها بـ"ألّا تُمسّ"، وكذلك إلى قناعتها بأنّ الكتاب أهمّ من كاتبه، وأنّه يتحرّر منه ولا يعود بحاجة إليه بمجرّد أن يصدر ويصبح متاحاً للقرّاء، وأنّ "الكتابة مع عدم ضرورة الظهور تولّد حيّزاً من الحرية الإبداعية المطلقة". أمّا الكتابات التي تخصّص للحديث عنها فصولاً طويلة وشيّقة، فتعتبرها فيرانتي "فعل تعالٍ" و"استيلاء غير مستحقّ" على حياة الآخرين وشخصيّاتهم.
تنتقد اهتمام الصحافة الثقافية باسم الكاتب لا بما يكتب
وفي السياسة والشأن العام، تنتقد فيرانتي الساسة الإيطاليّين الفاسدين، وخاصّة رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلوسكوني، الذي كتبت في هجائه قصّة قصيرة رمزية. كما تحضر مدينة نابولي في أسئلة الصحافيين، وهي مسقط رأس الكاتبة التي غادرتها لتعيش في أكثر من مكان داخل إيطاليا وخارجها، قبل أن تعود إليها. تؤكّد فيرانتي أنّ حال نابولي لم تعُد خاصّة بها، فقد أصبحت منذ مدّة حال العالم كلّه. الفرق فقط هو أنّها تظهر بجلاء ووضوحٍ أكبر في هذه المدينة المتوسطية؛ فالعنف هو ذاته، وضحاياه من الضعفاء، سواء أكانوا نساء أو فقراء أو أطفالاً، هم ذاتهم، ونمط المافيا الوحشي الذي يسود أنظمة الحكم في العالم هو ذاته أيضاً.
تُعرِّج فيرانتي كذلك على مواقفها النسوية ونمط كتابتها المنتصر للمرأة وكفاحها في عالم ذكوري، حيث كلّ الأسماء الأدبية المكرّسة والمسلّم بدورها التأسيسي هي لكتّاب ذكور، بينما تحتاج الكاتبة إلى بذل جهود مضاعفة لمجرّد لفت النظر إليها، ناهيك عن الاعتراف بدورها وتأثيرها.
كما تتعرّض إلى موضوع الأمومة التي يمكن أن تُشكّل، مثلما تقول، خطراً يمحو المرأة جسدياً وروحياً، ويعرّض حياتها الخاصّة ومسيرتها المهنية لخطر المحو والإلغاء. تعرف الكاتبة عمّا تتحدّث هنا تماماً، وهي الأُمّ التي تُشكّل أمُّها شخصيةً محورية في وعيها بالمظالم النسوية، بالإضافة إلى العديد من النساء النابوليتانيات اللاتي يُشرف على حيواتهن وعلى صون شرفهن ذكورٌ متهتّكون. فالشخصيات الأنثوية التي تكتب فيرانتي برهافة عن مظلوميتها التي رأتها بكثرة في مدينتها نابولي، نلاحظ جذورها في ذكرياتها عن أُمّها الخيّاطة الجميلة، التي كانت موضع غيرة أبيها الدائمة وموضع شكّه واتهامه وغضبه، فقط لكونها وُلدت جميلةً يجتذب جسدها، الذي ظفر به ويتوق إلى احتكاره بالكامل، أنظار الرجال. كما نلاحظ الروابط الأنثوية المزعزعة والهشّة في علاقتها مع أختَيها، حيث وصلت غيرتها من أُختها الصغرى في طفولتها إلى حدّ إرسالها إلى حيث كانت متأكّدة من أنها ستُلاقي حتفها.
هذه المشاعر عندما تجد طريقها إلى التعبير تظهر بهذه القسوة. أمّا عندما تبقى مكبوتةً حبيسة الصدر تتحوّل إلى "فرانتوماليا"، وهي كلمة باللهجة النابوليتانية تعني "الإحساس بالتحوّل إلى فُتات، أو الغرق في خليط من شظايا حطام". من هذا الكبت والسحق والمبالغة في القمع، ومن إعادة تركيب خليط الحطام المُشظّى، وُلِدت الكتابة عند إيلينا فيرانتي، التي قدّمت لنا صاحبتها بأفضل صورة.
* كاتب من سورية
مشاركة الخبر: "فرانتوماليا" إيلينا فيرانتي: مراسلات 25 عاماً على وسائل التواصل من نيوز فور مي