عن الأخلاق والسلطة في تونس
أخيرا، تطهّرت تونس، بعد إصدار النيابة العامة بطاقة إيداع بالسجن ضد خمسة صنّاع محتوى مشهورين على تطبيقي تيك توك وإنستغرام، بتهمة الاعتداء على الأخلاق الحميدة وخدش الحياء والتجاهر الفاحش عبر شبكة الإنترنت.
جاء ذلك، بعدما أذنت وزارة العدل للنيابة العامة بملاحقة صنّاع المحتوى "الهابط والخادش" للأخلاق على تطبيقي تيك توك وإنستغرام، واتخاذ الإجراءات القانونية ضدّ كل من يتعمّد إنتاج أو عرض أو نشر بيانات أو بثّ صور ومقاطع فيديو تحتوي على مضامين تمسّ بالقيم الأخلاقية.
تزامنت هذه الأحكام مع حملات أخلاقوية ربطت تحرّكاتها بشعار محاربة الفساد الذي يرفعه رئيس الجمهورية منذ سنوات، معتبرة أن أمثال هؤلاء المؤثرين في الفضاء الافتراضي يهدّدون السلم المجتمعي، ويدمّرون المنظومة القيمية، ويمثلون خطراً على الأخلاق والتنشئة الاجتماعية السليمة والقويمة، ناهيك بتحوّل هذا النموذج من صنّاع المحتوى إلى نجوم يمثلون المال والشهرة التي تتحقّق بأيسر السبل وأرذلها، وفق رأي خصومهم، وهو ما يعزّز المخاوف من سلوك آخرين نهجهم، ولذلك يجب وقف النزيف، مهما كانت الأثمان.
تأتي هذه الأحداث مع وزارة تكنولوجيا الاتصال تعيين مدير عام للوكالة الفنية للاتصالات التي تؤمّن الدعم الفني للأبحاث العدلية في جرائم أنظمة المعلومات والاتصال، بما يذكّر بوكالة الاتصال سيئة الذكر زمن حكم زين العابدين بن علي، التي كانت عصا غليظة مسلطة على أصحاب القلم والرأي وغرفة لتوجيه الرأي العام.
فرض أخلاق سلطانية على الناس، تتأسس على الخوف والطاعة وعدم المبادرة
تحول فجأة جمع غفير في تونس إلى حماة أخلاق يرمون الناس بالحجارة، ويُصدرون الأحكام ويحرسون الفضيلة التي تؤطّرها الدولة وترعاها السلطة السياسية، وتحدّث معاييرها من وقت إلى آخر، حسب الظرف والمستجدات والرهانات.
لقد ضبطت هذه الفئة المجتمعية إيقاعها مع السلطة، وعزفت لحنا شعبويا يكتنز ما هو أبعد من السعي إلى حماية المجتمع عبر حفظ أخلاقيات التعايش المشترك، إلى وضع يد السلطة، المارقة في أصلها عن الأخلاق السياسية والإنسانية، على كل مجالات حياة المواطن وتكريس "أخلاق الطاعة" و"أخلاق الحرب"، التي تعزّز استمرار سلطويات مكيافيلية، تتعامل مع السياسة من حيث هي صراع ومؤامرات وميدان للحيلة، وتعمل بقاعدة الغاية تبرّر الوسيلة، من أجل الاستئثار بالحكم، وتجريد المواطنين من حقوقهم، والسيطرة على كل النوافذ التي يمكن أن تهزّ رياحها يوماً ما استقرار حكمها.
تمثل أخلاق الطاعة ما أشار إليه الفيلسوف الإنكليزي، توماس هوبز، بوجوب أن يطيع الناس حاكمهم ويخضعوا إرادتهم لإرادته، وأحكامهم لحكمه، حتى تتسنّى للحاكم حمايتهم من الأخطار والمؤامرات وحمايتهم أيضا من أنفسهم "الشريرة".
تحدّث أيضا المفكران، المغربي محمد عابد الجابري والمصري حسن حنفي، عن أخلاق الطاعة الآتية من التراث الفارسي التي سيطرت على الموروث الثقافي العربي، وهي أخلاق طاعة الملوك والاستسلام للأوضاع، وتخضع لتوجيه كامل من أجهزة الدولة الثقافية، والدعائية والدينية.
تحول فجأة جمع غفير في تونس إلى حماة أخلاق يرمون الناس بالحجارة، ويُصدرون الأحكام ويحرسون الفضيلة التي تؤطّرها الدولة وترعاها السلطة السياسية
يبيّن الفيلسوف الإيطالي، جورجيو أغامبين، أن العيش تحت ضغوط الحالة الاستثنائية أو قوانين الطوارئ، مثل ما هو عليه الوضع في تونس منذ انقلاب 25 يوليو (2021)، أو حالة الحصار الوهمية، أمر يطيح أخلاق الناس الحميدة من حيث إنهم مضطرّون إلى مداراة سلطة تستبيحهم وتنتهك حياتهم الشخصية وحقوقهم على نحو كامل، سلطة تؤسّس نفسها على إلغاء الناس وتعليق القانون، أو التلاعب به كيفما تشاء.
بالتالي، لم يكن الهدف من هذه الحملات الأخلاقوية في تونس تنقية الفضاء العام من سلوكياتٍ مخلّة بقدر ما تسعى إلى إلغاء أخلاق الحرية التي عزّزتها تجربة الربيع العربي، وكرّستها عشرية الديمقراطية، في مقابل فرض أخلاق سلطانية على الناس، تتأسس على الخوف والطاعة وعدم المبادرة.
دعاة أخلقة الفضاء الافتراضي في تونس أخيراً، في جزء كبير منهم، أنصار سلطة سياسية تعتقل مخالفيها وتروّع خصومها، وتحرّض عليهم، وتنتزع حقوقهم، تحت عنوان حماية السيادة الوطنية، لتبرّر هذه الغاية لاحقاً كل الأفعال والانتهاكات، وليصل الحد إلى الاعتداء على المعارضين بسكب مواد حارقة على وجوههم، مثل ما حدث، أخيراً، مع المعارض والوزير السابق والمترشح الرئاسي عبد اللطيف المكي، وهو جالس في فناء بيته.
كثيرون من دعاة أخلقة الفضاء الافتراضي في تونس أنصار سلطة سياسية تعتقل مخالفيها
يظهر التناقض جليا بين سلوك السلطة السياسية وأنصارها وقرارات حكومتهم التي أعلنت إجراءات عقابية في حق أشخاص اعتدوا على الأخلاق الحميدة، منهم امرأة حامل حوكمت بثلاث سنوات ونصف السنة، والحال أن الجميع يعلم الظروف السجنية السيئة في تونس، حيث لا تتوفر الحدود الدنيا التي تحترم كرامة الإنسان وآدميّته، ما يجعل عقوبة سلب الحرية يضاف إليها مع الأيام سلب للكرامة والصحة والأخلاق.
لا أحد يُنكر أن العالم الافتراضي يعجّ بمظاهر منافية للأخلاقيات العامة المجتمعية، القائمة على نظرة تراثية واعتقادية واعتيادية، لكن إلى جانب أن هذه المساحة التكنولوجية تظلّ متجاوزة الحدود القُطرية ونظمها الأخلاقية والتشريعية، فإن علاقة السلطة في تونس بالأخلاق أيضا مسألة استشكالية منذ عقود، لتؤول أزمة ثلاثية التركيب بين السلطة والشعب والأخلاق، يدفع الشعب الثمن الأكبر فيها، أولاً بالانقلاب على إرادته ووضع البلاد خارج مسار الديمقراطية والتحديث السياسي، ثم باتهامه بأنه مصدر الشر وسبب الانحطاط والتخلف الحضاري.
وإلباس المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد ثوبا أخلاقيا مردّه الناس، وليس السلطة وسياساتها وتوجهاتها، التي تصير بذلك في حلٍّ من أي مسؤولية عن تردّي الأوضاع.
مشاركة الخبر: عن الأخلاق والسلطة في تونس على وسائل التواصل من نيوز فور مي