مستقبل العالم في عهدة رجل الصفقات
إنّه يعشق الصفقات والمساومات. يراها فنّاً لا يقدر عليه إلّا من يمتلك العزيمة. شيء غريزي يُولد بها. الصفقات عنده تتجاوز النزاهة، فقوامها سياسة الابتزاز. تستند على معرفة مكامن الضعف في الآخر، فيُمارس الضغط الأقصى الذي يرتكز على ثلاث قواعد رئيسية، اكتسبها في شبابه من المحامي روي كُوِن، وردّدها في المشهد الأخير لـ"المتدرّب" (2024) لعلي عباسي: "العالم فوضوي. عليك حماية نفسك من خلال الهجوم"، "لا شيء اسمه الحقيقة، فكلّ ما يقوله الناس حقيقة. لذلك، افرضْ حقيقتك. أنكِرْ كلّ شيء، ولا تعترف بشيء"، و"مهما كانت حالتك سيئة، فلا تعترف بالهزيمة، وادّعِ أنّك منتصر".
يكاد الأمر يشبه السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية. هكذا ينطق الصحافي، كاتب مذكرات البطل، الذي يُؤدّي شخصية دونالد ترامب في "المتدرّب". فهل نتوقّع اختلافاً كبيراً في أحوال العالم، إنسانياً وثقافياً وسينمائياً، في فترة ولايته الثانية، بعد كلّ التأكيدات التي تضمّنها برنامجه الانتخابي؟ هذا لا ينفي أنّه رجلٌ حالم وطموح، يؤمن بنفسه، ومُقاتلٌ من أجل قناعاته، والفوز الذي لا يرضى عنه بديلاً، مهما كانت النتائج. إنّه مستعدّ لفعل أيّ شيء مع أيّ شخص في أيّ وقت، ليفوز ويحقّق مراده. مستعدٌّ لاستغلال أعدائه، وزرع الخوف في أنفسهم، بل ترويعهم. هذا جزء تكتيكي عنده في المساومة والابتزاز.
يعيد إحياء نموذج الكاوبوي الجديد، وترسيخ مفهوم الديكتاتورية. إذْ ليس من فراغٍ التعبيرُ عن إعجابه بالنماذج الديكتاتورية. بذكاء وغطرسة يفعل كلّ هذا تحت شعاري "إنقاذ أميركا" و"لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى". تلك وعودٌ جاءت بمثابة حملة لنقل الدماء، فأحيت جثة هامدة، ومنحت كثيراً من أبناء الشعب الأميركي الأمل في غدٍ أفضل. لكنْ، عندما نستعيد قليلاً نتائج ولايته السابقة، هل تحقّقت وعوده الانتخابية؟ هل تبدّل العالم كثيراً فيها؟ ألم يقل آنذاك إنّه سيبني جداراً كاملاً بين أميركا والمكسيك لمنع تدفّق المهاجرين غير الشرعيين، لكنّه بنى جزءاً صغيراً منه فقط؟ هل ينجح في ولايته الثانية بطرد/ترحيل جميع المهاجرين غير الشرعيين، الذين اختلفت التقديرات بشأنهم (نحو 11 مليون شخص)؟ كيف سيصل إليهم؟ ماذا سيفعل مع الشركات الأميركية التي تستأجرهم؟ ماذا ستكون تداعيات ذلك على النظام؟ ظاهرياً، صحيح أنّ لهذا الملف جوانب إيجابية جداً على الشعب الأميركي، لكنّه، في جانب آخر، ربما يُساعد المدّ اليميني العنصري المتطرّف.
ألم يزعم ترامب أنّه سيضع هيلاري كلينتون في السجن، في حملته الانتخابية الأولي، لكنّه لم يفعل؟ لماذا؟ لأنّ ترامب قبل الانتخابات سيكون ترامب آخر بعدها، وأيّ رئيس أميركي جديد، عندما يدخل البيت الأبيض، عليه حتماً أنْ يلتزم أجندة معيّنة تُكبّل، كثيراً أو قليلاً، من رغباته وقرارته. مع ذلك، ربما ينجح في استصدار عفو بشأن الذين أُدينوا في جرائم قتل في أحداث 6 يناير/كانون الثاني 2021: ألا يحتمل هذا التسبّب في تقويض سلطة القضاء، خاصةً أنّ بعضهم أُدين بقتل رجال شرطة في أعمال شغب عقب هزيمته؟
إنّها مواد وأحداث ربما نراها على شاشة هوليوود. فهل ينتقم ترامب من نجومها ونجماتها الذين هاجموه، أو كانوا ضدّ ترشّحه، كروبرت دي نيرو وجوليا روبرتس وميريل ستريب وهاريسون فورد وجينيفر لوبيز وتوم هانكس وليدي غاغا وتايلور سويفت؟ أعتقد أنّ لديه مشاريع أهم وأكبر، إذْ ربما يكفيه عدم تأثيرهم في الرأي العام الأميركي، وهذا تأكّد بفوزه، إذْ يكشف قوّتهم الحقيقية، بانفصالهم عن القضايا الأساسية والأهمّ للشعب الأميركي، كالوظائف التي توفّر لهم حياة كريمة، وتمسّكهم بأخلاقيات، ورفضهم المثلية الجنسية.
لاستديوهات هوليوود مشاكل بعيدة عن ترامب، خاصة في ظلّ ثورة الذكاء الاصطناعي. لكنّ الأثر الجانبي، الذي ربما يطاول الصناعة السينمائية الثانية في العالم بعدد الأفلام المنتجة سنوياً بعد بوليوود، ربما يتعلّق بالتعريفة الجمركية، ومحاولات ترامب ابتزاز دول عظمى كالصين، أهم مجال استراتيجي في السياسة الخارجية لأميركا، بما لهذا من أثر كبير جداً على الأمن والتجارة العالميّين. ربما يؤثّر ذلك على سوق التوزيع، المترنّح فعلياً، للأفلام وصناعة الترفيه الأميركية، إذْ يُؤدّي إلى مزيد من عرقلة علاقة هوليوود مع الصين. لكنْ، على صعيد آخر، ربما يكون مفيداً لسينما "آرت هاوس" وأنواع سينمائية مقبلة من بلدان أوروبية وآسيوية. ففي سنوات، اشتكى رجال الفنّ والثقافة من هيمنة السينما الهوليوودية، ما حال دون انتشار عدد آخر من السينمات، إذْ ظلّت أميركا لسنوات تسعى بكل جهودها إلى الضغط وتقليص الدعم الذي تمنحه فرنسا للثقافة والفنون، وفي مقدّمتها السينما. لذلك أيضاً، كانت فرنسا تدعم سينما العالم الثالث، وتبني الاستديوهات في أفريقيا جنوب الصحراء. لم تفعل فرنسا ذلك حبّاً بالعالم الثالث، لكنّها تُدرك أنّ السينما الفرنسية وحدها غير قادرة على مواجهة الغزو الهوليوودي، فسعت بدأب إلى خلق سينما بديلة من مختلف البلدان، لتُشكّل جزءاً من حائط الصدّ والمواجهة.
أمّا "المتدرب"، الذي أرجع البعضُ فشلَه إلى الخوف من مقاضاة ترامب لصُنّاعه، إذْ لم يتمكّن منتجوه من إيجاد موزّع له، فيلم متواضع فنياً وفكرياً، وشديد السطحية، إذْ تختفي منه أي تورية، ولا توجد به طبقات تفسير. فلو كان بقوّة ترامب وجبروته وبلطجته، ربما حقّق إيرادات في أميركا رغم أنف ترامب نفسه. فالفيلم الجيد القوي كبركان أو فيضان لا يستطيع أنْ يقف في وجهه شيءٌ.
يؤكّد البعض المخاوف السابقة باستشهاده بحال الاستديوهات بين عصرين. ففي الماضي، كانت الاستديوهات شركات صغيرة تصنع أفلاماً. الآن باتت تروساً في عمليات هائلة ومتعدّدة الجنسيات، كقطعة دومينو تتسبّب فجأة بسقوط 50 أخرى. هناك أيضاً مخاوف من شبكات البثّ الخاصة، والتهديد بسحب تراخيصها. فهل الخوف من الانتقام يُمكن أنْ يحيل إلى ارتفاع أسهم وسائل الإعلام الأكثر محافظة؟
ربما تكون المخاوف في محلّها، فهذه مرحلة انتقالية مفخّخة بالاضطراب. لكنّ التاريخ يُعيد إلى الأذهان نماذج إعلامية نزيهة وشريفة لم ترضخ للانتقام والتهديد المروّع في عهد ريتشارد نيكسون مثلاً. تحايل البعض على وعود ترامب، فانتقلت شركات أميركية تكنولوجية من الصين إلي الهند، خوفاً من التهديد الذي نُفِّذ جزئياً في ولايته الأولى. لكنّ أسئلة تُطرح: هل تُشكِّل تلك الخطوة حماية حقيقية لوظائف التصنيع الأميركية؟ هل ستوفّر فرص عمل للعاطلين عنه في أميركا؟ ماذا عن المكننة التي تسبّبت بطرد مئات الآلاف من العاملين، أو الملايين؟ ماذا عن الذكاء الاصطناعي الذي يُهدّد الإنسان في كلّ مكان؟ أعتقد أنّه مع الوقت، سيكتشف الناخبون خطأ تصوّراتهم، وستظلّ البطالة قائمة.
السؤال الذي يشغل كلّ عربي وأوروبي، في ما يخصّ الإبادة الجماعية في غزة: هل سيُوقف ترامب، حقّاً، الحربين على القطاع وفي أوكرانيا، وكيف؟ إذْ لم يُقدّم إجابة توضح خطته لإنهائهما. أعتقد أنّه سيمارس هوايته المفضّلة، أي الابتزاز والمساومة. ربما أخبر قادتها أنّه لا يزال أمام إسرائيل نحو شهر ونصف الشهر لإكمال ما تريده من تدمير وقتل وإبادة، لأنّه لن يسمح لها بإراقة قطرة دمٍ واحدة يوم تنصيبه، كما فعل باراك أوباما في ولايته الأولى. بعد ذلك، سيبدأ تنفيذ رغبات إسرائيل، بإنجاز وعد بلفور آخر، وإغلاق ملف القدس لصالحها. ثم يُنجز التطبيع مع دول عربية وإسلامية، مقابل اتفاقية الدفاع المشترك، ومنحها أسلحة تريدها، مع توظيف الابتزاز بملف إيران. ألم يصفه بنيامين نتانياهو بأنّه "أفضل صديق حصلت عليه إسرائيل في البيت الأبيض على الإطلاق"؟ أما أوكرانيا، فلن تكون أحسن حالاً.
ختاماً، ربما ينقلب السحر على الساحر، وتخيب كلّ تلك الظنون السابقة، إذا تمّ التطبيق القسري لتداول العملات الرقمية. إنّها عملية غشّ كبرى، ستفاقم عدد الفقراء والمحتاجين في العالم. ذات يوم، سيستيقظ العالم على إعدام العملات المحلية، ويكتشف المواطنون أنّهم مفلسون. أما الجانب المشرق لهذه العملات، فيكمن في أنّ السياسيين وذوي النفوذ التقليديين سيفقدون قدرتهم على تهديد أهل الفنون والثقافة، لأنّهم لن يكونوا قادرين على التحكّم بهذه الأموال. ربما.
مشاركة الخبر: مستقبل العالم في عهدة رجل الصفقات على وسائل التواصل من نيوز فور مي