التسامح من طرف واحد
احتفل العالمُ باليوم الدوليّ للتسامح، في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني، مثل كلّ عام. غصّت وسائلُ الإعلام بدعوات إلى احترام الآخر، وقبول الاختلاف، ونبذ الكراهيّة، حتى جاز السؤال: هل هو احتفالٌ بفضيلة التسامح، أم مُجرَّدُ فرصةٍ أخرى للوك شعاراتٍ لا تَحمِي ولا تمنعُ من بشاعة العالم؟ هل أصبح التسامح مذهبَ الجميع، من قادة الدول إلى نجوم السوشيال ميديا، أم إنّه مجرّد ديكور العادة من الكذب والنفاق، نزيّن به أحاديثنا، بينما نُعِدُّ في الخفاء قائمةً بأعدائنا لنكتب أسماءهم في دفترنا الأسود؟
يمرّ هذا اليومُ بالخسران نفسه في كلّ عام. إن هي إلّا ساعاتٌ لإحياء حفلِ رقصٍ بالأقنعة قبل التفرّغ لمزيدٍ من التباغض. كلٌّ يتشدّق بمديح التسامح، بينما هو يسنّ أنيابَه لمن يخالفه الرأي. من زحمة هذا اليوم، يخرُج علينا شبحُ الفيلسوف كارل بوبر بما سمّاها "مفارقة التسامح". الفكرة بسيطة بقدر ما هي كارثيّة: أنت في حاجةٍ إلى أن تكون غير متسامح أحياناً مع غير المتسامحين، لتُبقِيَ التسامحَ على قيد الحياة. أليس هذا الأمر أشبه بمحاولة إطفاء النار بوساطة مشعلي الحرائق؟
يكشّر هذا التسامح الاحتفالي عن أنيابه السياسيّة أيضاً. الأنظمة التي تنصح رعاياها بواجب التسامح حيالها هي التي تطاردهم بلا تسامُحها العضوض، إذا مارسوا حريّتهم في الاختلاف عنها. التسامح عليكم وليس علينا! هكذا تقول الدول العظمى أيضاً، وهي "تتسامح" فيما بينها بالقنابل والمسيّرات. لكأنّ مفهوم "التسامح بين الدول" وُلد ليكون أضحوكة سياسية، خاصّةً في النهاية، حين يجتمع القادة بابتساماتهم العريضة، وغبائهم الطبيعي، وذكائهم الاصطناعي، ليقولوا: لقد توصّلنا إلى تفاهم، ولا ينقصنا إلّا "تسامح الضحيّة مع الجلّاد".
وفي الحياة اليوميّة يبدو التسامح عبئاً ثقيلاً. خاصّةً حين يُطلب منك أن تتسامح مع الغير وأنت بالكاد تحتمل نفسك. وأيّاً كان الأمر، يبدو التسامح، في أغلب الأحيان، أشبه بفضيلة مقدّسة صعبة المنال، لا تحلم بها إلّا حين يُجابهك ضعفك. أمّا حين يميل ميزان القوى لصالحك، فإنّ الجميع يبدون لك أنانيّين، يستغلّون تسامحك الأبديّ، ويريدون إقناعك بالدخول في مباراة لغسل الصحون، بينما هم لا يغسلون حتى أيديهم!
في 29 من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كلّ عام، تحتفل الدولُ التي تدّعي التحضُّر باليوم الدوليّ للتضامن مع الشعب الفلسطينيّ. يا لرقّة المشاعر! الغريب أنّ الأمم المتّحدة أقرّت أكثر من 180 يوماً دوليّاً، يبدو 50 منها تستُّراً صارخاً على حصاد بقيّة أيّام السنة، من جرائم عدم التسامح، وجرائم عدم التضامن، وجرائم الإبادة، التي ما انفكّت تُرتكب ضدّ "الحيوانات البشريّة"، وضدّ الشعب الفلسطينيّ تحديداً، وما انفكّ يرتكبها قادةُ المنظومة الأمميّة، أقصد الدول التي تنتحل صفة "الدول الأكثر تحضّراً في العالم": الولايات المتحدة، وحلفاؤها، وإسرائيل تحديداً.
ما الحلّ إذَنْ؟... لو أردنا السخرية مع الساخرين، لقلنا إنّ الحلَّ في الانعزال في كوخ على جبل، بعيداً عن البشر. أو لعلّه في احتراف النسيان. وكما بحث جلجامش عن عشبة الخلود، عليك أن تبحث عن عشبة النسيان، فالتسامح الحقيقي ابنُ الذاكرة المثقوبة. أو لعلّه كامنٌ في ابتكار "قواعد جديدة" للتسامح: عليك، أوّلاً، أن تقدّم تسامحك مشروطاً: "التكرار قد يؤدي إلى عقوبات". عليك، ثانياً، أن تقسّمه على جرعاتٍ، كأنّه رصيدٌ في حساب بنكيّ، وبمجرّد نفادِ رصيدك من التسامح يجب أن تنتظر شهراً ماليّاً جديداً. وعليك ثالثاً ألَّا تمنح تسامحك مجاناً. لا تتسامح إلا مع من يتسامح معك.
أمّا إذا كنت عصيّاً على السخرية في هذا الزمن المغشوش، فقد يكمن الحلّ في أن تتسامح مع ذاتك قبل كلّ شيء، كي لا تضطرّ إلى قتل ضميرك في سبيل التعايش مع الشرّ فيك وفي العالم. عليك أن تفهم أنّ التسامح ليس في الصفح عن الظلم، بل هو في التمييز بين من يحمل وجهة نظرٍ عليك أن تحترمها، ومن هو مجرم لا بدّ من مواجهته بحزم. وبالنسبة إلى مفارقة بوبر فلتدعها للمتفلسفين. أنت بالكاد تتسامح مع انقطاع الإنترنت في بيتك! ثمّ إنّك لست ملاكاً ولست شيطاناً. أنت إنسان مليء بالتناقضات، يستمدّ قوّته من هشاشته. من ثمّ ربّما يبدأ التسامح الحقيقيّ من القبول بهذه الحقيقة، بدلاً من محاولة إقناع الذات بأنّ التسامح ممكنٌ من طرفٍ واحد.
مشاركة الخبر: التسامح من طرف واحد على وسائل التواصل من نيوز فور مي