سالي وغادة... متطوعتان لبنانيتان تعملان من أجل النازحين
على صفحتها في "إنستغرام"، تنشر اللبنانية سالي حلاوي صوراً وفيديوهات لأكوام من الثياب، تفرزها في أكياس أو صناديق من كرتون. ثيابٌ لا تشبه تلك التي كانت تبيعها "أونلاين" في إطار مشروع أطلقته قبل فترة. هذه الثياب قُدّمت إليها كتبرعات للنازحين الذين فرّ معظمهم من بيته على عجلٍ، من دون أن يتمكّنوا من جلب أغراض أساسية من ثياب وغير ذلك. والنشر على "إنستغرام" ليس لغرض كسب مزيد من "اللايكات"، أو إظهار دورها كناشطة بعد توسّع العدوان الإسرائيلي على لبنان في 23 سبتمبر/ أيلول الماضي. أكثر ما ترغب فيه سالي هو زيادة هذه التبرّعات، ليستفيد منها العدد الأكبر من النازحين.
حملت هذه المهمة على عاتقها إلى أن أُنهكت اليوم، وباتت تشعر بالحاجة إلى القليل من الراحة. كانت أيام التصعيد الأولى صعبة بالنسبة إليها، ليس لأنها اضطرت إلى النزوح، أو لأنّها فقدت أو خسرت شيئاً ما، بل لأنها من الأشخاص الأكثر حظّاً في لبنان في الوقت الحالي كون الضرر لم يُصبها في وقت يُصيب آخرين. العدوان لم يفرض على سالي مغادرةَ بيتها في منطقة عين الرمانة المحاذية للضاحية الجنوبية لبيروت، كونها ليست هدفاً للاحتلال الإسرائيلي. هذه "النعمة" غذّت شعورها بالذنب تجاه الآخرين.
سالي التي اختارت الثياب مهنةً لها، اختارتها أيضاً مساعدة النازحين. بين المعارف وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، أعلنت عن مبادرتها لجمع الثياب من المتبرعين لتوزيعها. وفضّلت عدم الحصول على المال مباشرة لشرائها. وصلت إليها أكوامٌ من الثياب عملت وحيدةً على فرزها معظم الوقت، بحسب المقاسات وبين ما هو صيفي وشتوي. كان يضايقها عدم قدرتها على تأمين بعض الطلبات، كحاجة عائلة إلى ثياب للأطفال لا تملكها. والعجز في لحظات كهذه ليس بالأمر السهل، وخصوصاً إذا كان الأطفال هم الفئة المحتاجة.
بعد الفرز، كان أحد الأصدقاء يتولى التوزيع. وفي بعض الأحيان، يأتي النازحون إلى المكان الذي تضع فيه الثياب لاختيار ما يحتاجون إليه. في الوقت الحالي، توقفت عن قبول مزيد من التبرعات، وتتولى متابعة توزيع ما كانت قد جمعته. هي في حاجة للعودة إلى نفسها والاهتمام بعملها. ولا تعرف ما قد يحدث مستقبلاً.
إحساس الذنب نفسه عاشته غادة صالح. لم تترك بيتها أو تُهجّر، علماً أنها تنحدر من مدينة صور الجنوبية، وربّما لن تتمكن من قضاء بعض أيام الصيف فيها على مقربة من شاطئ البحر كما اعتادت. الشعور بهذا "التميّز" بينما ينام آخرون في مراكز إيواء أو في العراء شكّل ضغطاً عليها. تقول إنها تواصلت مع مجموعة من الناس بهدف المساعدة. في إحدى المبادرات، كان منزلها مكاناً لتجميع الثياب المتبرع بها في العاصمة بيروت، قبل نقلها إلى منطقة أخرى استعداداً لتوزيعها على النازحين. وهذا العمل لم يكن كافياً بالنسبة إليها.
أرادت التطوّع في إطار مبادرات فردية وليس جمعيات، حيث جميع البيانات، خصوصاً المتعلقة بالنازحين وتفاصيلهم، مسجلة، وخشية أن تكون مموّلة من جهات داعمة للاحتلال. أرادت أن تكون على تماس مباشر مع الناس، من دون وسطاء.
View this post on InstagramA post shared by The Circuit (@thecircuitleb)
منذ بدء العدوان، توقف عملها، وزاد شعورها بالتوتر في المنزل. "أنا من الأشخاص الذين يحتاجون إلى نظام واستقرار ليتمكّنوا من العمل أو حتى القيام بالمهام اليومية كمجرد الطهي والاهتمام بالقطط". ثم كانت إحدى الصديقات صلة الوصل مع مطبخ مستقلّ غير تابع لأي جمعية، يتولى إعداد الطعام وتوزيعه على النازحين. لا معارف لها في ذلك المكان. إلا أن الصديقة، صلة الوصل، كانت حريصة على تأمين أشخاص "أوادم". قد تحدث جدالات سياسية بين العاملين، لكن الاحترام موجود.
في هذا المكان، وضعت غادة نفسها التي عرفتها لسنوات طويلة جانباً. في هذا المكان، تتولى القيام بما يُطلب منها. تقشّر الجزر والبطاطس وغيرها من الخضار، أو تغسل الصحون، أو تنظّف الأرضية. الطاهي علي مسؤول عن إعداد الطعام، فيما تتولّى نور توزيع المهام على المتطوعين. وبمجرد الانضمام إلى المطبخ، لم تعد غادة تشعر بأنها عديمة الجدوى، وعاد الإيقاع إلى حياتها. تقول إن المطبخ يقدم الطعام للنازحين غير المشمولين ضمن أهداف الجمعيات، ومن بينهم مجموعات من جاليات غير لبنانية. وتلفت إلى أن بعض الأشخاص خسروا أعمالهم، ولم يعودوا قادرين على تأمين وجباتهم الغذائية اليومية.
لا يعمل المطبخ وفق خطة متكاملة أو واضحة، إذ إن العمل مرتبط بحجم التبرعات. وإذا ما كانت الوجبات في يوم ما أقل من العادة، يتواصلون مع المطابخ الأخرى لضمان حصول الناس على غذائهم.
كانت الحرب قاسية على غادة نفسياً. تدرك أن هذا التعب لا يتعلق بها وحدها، فكلٌّ يخوض حربه النفسية. أما عن نفسها، فتقول إنها كانت تعيش حربَين، الأولى يمثلها العدوان الإسرائيلي والثانية تجري في داخلها. الحرب الأخيرة التي شهدتها كانت عدوان إبريل/ نيسان 1996. لكن هذه العدوان أعاد إليها الصدمات المرتبطة بالحروب الإسرائيلية على لبنان، حين تهدم مبنى فوق رأسها خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. فتحت هذه الحرب باب الذاكرة ولم تعد قادرة على إغلاقه. تقول: "حتى أتخلّص من ذلك القلق الذي بات جزءاً مني، كان عليّ مد جسر يصل إلى أشخاص لا أعرفهم، أساعدهم من دون أن أكون جزءاً من الصورة. لم أكن أبحث عن بطولة، بل عن تضميد لجراح وخلق الأمان".
ساعدها العمل التطوعي على خلق نوع من التوازن النفسي الداخلي. خفت الإحساس بالذنب، ومتابعة أماكن سقوط الصواريخ على وسائل التواصل الاجتماعي. وتذكر أنه حين ضربت صور (جنوب)، "كنت أحضّر الشطائر وأبكي، علماً أنني لطالما فضّلت نسيان الذكريات المتعلقة ببيتنا. لكن كأن القصف كان يستهدف قلبي. في الوقت نفسه، كان وجودي ضمن فريق المطبخ حلّاً لوحدتي. وهذا العمل الذي جمعني بأشخاص لا أعرفهم بعدما جمعتنا أزمة، ساعدني على الاستقرار. لم أرد أن أعرف الناس الذين سيأخذون الصحون اليومية. المهم بالنسبة إليّ أنني قادرة على العمل في وقت يحتاج فيه آخرون إلى عمل".
لن تتمكن غادة من الاستمرار في العمل التطوعي كما في السابق بسبب حاجتها إلى العمل، لكن هذا لا يعني أنها لن تكون موجودة. غادة وسالي اختارتا العمل التطوعي الفردي أو مع متطوعين آخرين لمساعدة النازحين، من أجلهما ومن أجل الآخرين. ومع ذلك، لم يختف إحساسهما بالذنب تماماً.
مشاركة الخبر: سالي وغادة... متطوعتان لبنانيتان تعملان من أجل النازحين على وسائل التواصل من نيوز فور مي