الأوغاد لروان بن رقية.. إعادة اكتشاف الذات في زمن الكورونا
الأوغاد لروان بن رقية.. إعادة اكتشاف الذات في زمن الكورونا
الموقع بوست - الجزيرة نت الخميس, 08 أكتوبر, 2020 - 03:42 مساءً
[ روان بن رقية تناقش قصصا خيالية للمهمشين القابعين في المنازل أو المطرودين في الشوارع في زمن جائحة كورونا ]
في أيام الكوارث لا نعلم بسرعة ما يحدث وراء الأبواب المقفلة، إذ تتفجر تلك البيوت بأسرارها بعد أن تخمد نيران المدافع والبنادق في الحروب، وبعد خروج الغزاة على إثر اجتياح أو انتهاء جائحة، حتى تلك الكتب التي تكتب في السر لا تخرج إلا بعد أن ينقشع الخطر.
خلافا لهذا، وكما تهاطلت الكتب أثناء الثورات العربية الناجية والمجهضة والمغتالة شهادات وروايات وقصصا، خلقت الشهور القليلة من جائحة كورونا المستمرة كتّابها، لا عبر تسجيل الوقائع فقط بل عبر عوالمها التخييلية أيضا.
ضمن هذه العوالم ظهر كتاب "الأوغاد" القصصي للكاتبة والقاضية التونسية روان بن رقية عن دار الكتاب، تنقل فيه العوالم الداخلية الأسرية وتحولاتها تحت سطوة جائحة الكورونا.
قبضة الرياضية ومطرقة القاضية
يكشف مقدّم الكتاب القاضي السابق والمحامي محمد بن محمد اللجمي أن الكاتبة المغرمة بالأدب العربي والفرنسي، والقاضية والباحثة في القانون كانت أيضا رياضية، وواحدة من لاعبات المنتخب التونسي لكرة الطائرة.
هذه الهويات المتنوعة التي تبدو متداخلة تعمل جميعا كأصابع اليد الواحدة، لتمسك باللحظة وتكتب كما تمسك بالكرة لتضرب أرض الملعب، أو تمسك المطرقة لتضرب طاولة المحكمة لتحكم.
قصص كتاب "الأوغاد" الـ16، والذي سبق ونشرت ترجمته الفرنسية قبل ظهور أصله العربي، قصص من اليومي المعيش لنساء ورجال أكلهم الفقد والاغتراب والتذرّي في العالم، وسقطوا في نسيان أنفسهم كما نسيهم العالم والناس الذين من حولهم.
تحاول روان بن رقية أن تفتح نوافذ وكوى صغيرة بجدران بيوتهم في الحجر الصحي الذي فرضته السلطة، لتصغي لأصواتهم الخافتة وهي تحاول أن تصرخ في وجه القهر.
المهمشون في الحجر الصحي
ينشغل الكتاب برصد حيوات المهمشين نساء ورجالا في واقع الحجر الصحي، حيث تغلق السلطة البيوت على الناس بالقانون، ولا تهتم بما يجري داخلها بينهم.
لا تفكر السلطة بمصير أولئك الأشخاص الذين دفعتهم إلى البيوت، هي فقط معنية بحمايتهم من الغول الخارجي (الفيروس).
أو ربما هي تخاف منهم فالفيروس منتشر فيهم، هي تدفعهم إلى البيوت حتى تفرز المريض منهم من السليم، لكن حتى هذا العمل القسري القانون العام يستثني منه بعض المهمشين الأشد فقرا والمجانين.
دائما هناك أناس تتخلى عنهم السلطة كليا بالتجاهل، وضمن هذه الطبقة يظهر المعتوه "شيشتو" الذي يركض في الشارع "تحيا الكورونا، يحيا الوباء".
شيشتو بائع الفحم القديم والفيلسوف العصامي الذي فقد عقله بسبب خسرانه العاطفي وفقدانه لحبيبته التي تزوجت بثريّ، ظلّ يركض في الشوارع بكلبيه "ماركس" و"إنجلز" متعرضا لشتى أشكال العنف من الجميع وخاصة من الأطفال.
عندما تقبض عليه الشرطة التي تراقب تنفيذ حظر التجول، ويذكّره الشرطي أن حظر التجول على جميع المواطنين، يذكره شيشتو أن حظر التجول للبشر فعلا أما هو فقد اتفق الجميع على أنه كلب "شيشتو الكلب"، لذلك قرار السلطة لا يعنيه، يفحم الفحّام القديم السلطة فتتركه الشرطة لمصيره.
يخلق شيشتو الفيلسوف معنى جديدا لواقعه، ليواصل تمرده ومقاومته للنظام، فيقنع نفسه أنه أخيرا هو الشخص الوحيد الحر والسيد والسلطان.
قصة تقارب فيها الكاتبة ميكانزمات اشتغال السلطة في استهدافها للقطيع، وإنتاجه وفق آلية المراقبة والعقاب حسب مفهوم الفيلسوف الفرنسي فوكو .
لا يهز عرش تلك السلطة إلا المعتوه والمجنون، فلا يمكن أن ترسي السلطة نفوذها إلا على العقلاء، في حين وجدت نفسها اليوم في زمن الكورونا أمام فشل اختراعاتها، السجون والمارستانات كمعوض لسياسة طرد البُرْص والمجانين .. خارج المدينة وخارج الأسوار.
لم يعد ذلك ممكنا، فالأسوار مقفلة أيضا، ولم يبق أمامها إلا أن تستثنيهم باعتبارهم ليسوا بشرا. هم كلاب كشيشتو الذي يتساءل من أول القصة عن دهاء السماء التي تجعل "المطر يزف له ضمير العالم"، ويمنحه الحرية من دون الجميع ليركض مع ماركس وإنجلز دون أن يتعرض له أحد.
لتصح عبارة جان جاك روسو التي صدّرت بها الكاتبة واحدة من قصصها "القوة والحرية هما اللتان تصنعان الرجال الممتازين، الضعف والعبودية لم يصنعا إلا الأشرار". وكان شيشتو قويا وحرا عندما وقف كبطل إغريقي يجر كلبيه العظيمين في وجه الشرطة يذكرها أنها تخلت عنه منذ زمن، حين سمحت للعالم كله أن يناديه "شيشتو الكلب"، لذلك ليس لها الحق اليوم في أن تطبق عليه قوانينها التي أصدرتها للمواطنين.
قصص نساء معنّفات
القضاة هم أكثر الأشخاص الذين تخترقهم الحكايات، فالملفات المتراكمة في المحاكم هي حيوات وحكايات لن يفك شيفرتها إلا القضاة، ولذلك لا يمكن أن نسائل القاضي من أين تأتي بالقصص، فالقصص تأتيه ولا يذهب إليها حتى يذكرنا الأمر ببيت المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرّاها ويختصم
غير أن هذه القصص التي تقترحها علينا روان بن رقية، هي قصص خاصة لأناس محجورين يكتشفون ذواتهم من جديد، وأغلب شخصيات روان من النساء.
ويعد الموضوع الأكثر بروزا في هذه المجموعة هو العنف ضد المرأة بشتى أنواعه: العنف المادي، والعنف الرمزي، والعنف اللغوي اللفظي، والعنف الحقوقي …
إن لجوء قاضية لكتابة قصص عن واقع المرأة التونسية، وما تتعرض له من عنف يطرح تساؤلا كبيرا حول حقيقة تلك الترسانة من القوانين التي استحدثت في تونس عبر أنظمتها السياسية المتعددة للانتصار لحرية المرأة، من مجلة الأحوال الشخصية مع بورقيبة إلى طرح قضية المساواة التامة اليوم.
ما الذي يحدث بين التنظير والممارسة؟ هل هناك خط سميك يجعل القوانين لا تمر إلى التنفيذ؟ وهل سنّ القوانين كاف للقضاء على الظواهر الاجتماعية السلبية كالعنف ضد المرأة؟ هل نحتاج للقصص كطريقة أخرى لإنتاج ذلك الوعي بالقوانين؟
كل الشخصيات في هذه القصص تعاني من غبن سببه الزوج العنيف، والأب الذي يبيع ابنته ولكنه أيضا يجد غذاءه من نساء كالأمهات، حيث تتحول الأم في بعض المجتمعات إلى نظير للذكر ومربٍّ له، وفق معايير تهيئه لممارسة العنف ضد المرأة، أو تهيئ ابنتها للقبول بذلك العنف كقدر وحق للذكر، وهنا تظهر المفارقة بين أن تكون امرأة موضوع عنف وتربّي ذكرا لينتجه على أخريات.
إن القاضي في كتابة هذه القصص لم يظهر بصفته قاضيا بل فتح الملفات واكتفى بتتبع مصائر أبطالها. يقول الروائي والمترجم جمال الجلاصي الذي كتب مقدمة الكتاب "طلية الـ16 قصة القصيرة التي كتبتها روان بن رقية لم تقم بالتنظير الفكري ولا بالتحليل النفسي أو الاجتماعي… لم تقف على ربوة لتشرف على الحياة وتطلق أحكاما فوقية، ولم تعدد نظريات الحقوقيين و الإنسانيين عن حقوق المرأة والطفل واتفاقيات حقوق الإنسان وعهوده الدولية".
كانت روان تكتفي بمسك مقص عملاق قادر بضربات صغيرة دقيقة على تفصيل قطعة من حياة البشر، قطعة لا تزويق فيها ولا أحكام ولا وجهات نظر متحذلقة".
تحاول الكاتبة أن تلتقط صورا لكنها صور من داخل البيوت، وربما هذا ما يفسر صورة الغلاف الذي حمل صورة لامرأة تبتسم وخلفها أيقونات الثقافة العالمية من درويش إلى نيتشه.
هذه الصورة بالأبيض والأسود والخلفية الضاجّة بالشعر والفلسفة هي التي تطرحها روان في قصصها عبر ثيمات بدت قضايا المرأة أهمها، لكنها تجاوزت ذلك إلى قضايا أخرى معاصرة مازالت نادرة في كتابتها العربية.
الشخصية الإيكولوجية
اغتالت الكورونا أشهر الكتاب العالميين الذين ناضلوا من أجل البيئة، وأسسوا لتيار جديد في الرواية والسينما وهو الرواية والسينما البيئية، الروائي التشيلي لويس سيبولفيدا صاحب رواية "العجوز الذي يقرأ الروايات الغرامية"، ورواية "العالم في نهاية العالم". وكان سيبولفيدا يردد دائما " ثمة أسباب عديدة تجعلك سعيدا في هذه الحياة، منها واحد اسمه الماء وآخر اسمه الهواء، وآخر اسمه الشمس التي تأتي دائما كمكافأة بعد مطر" .
في قصة "سي محمد" تظهر ظلال هذا الكاتب وهذه العقيدة حين يحاول مقاومة رغبة زوجته "منية" في تشييد المنازل الكبيرة ذات الطوابق وامتلاك العقارات متمسكا بالطبيعة، فيرد على إلحاحها بقوله "تعرفين أن الأرض هي جلد عظمي يا منية، وأنني أطمح أن أدفن تحت شجرة البرتقال وخاصة، ألا أموت في البيت. ماذا أفعل بطابقين؟ الموت بين الأشجار أفضل من الموت بين حيطان لا تطل على شيء يعنيني، الحيطان تفجر في داخلي رغبة جامحة بالانتحار".
وحتى بعد أن يحقق لها ما تريد، ويظل بالطابق الأرضي تهجره زوجته وتعود إلى المدينة، في حين يظل هو متوحدا مع الطبيعة نباتا وحيوانا، ويكتشف أنه علينا أن نتحرر من كل شيء بما في ذلك الناس ولا نبقي على صلة إلا مع الطبيعة، فيصف حياته الجديدة قائلا "إنها حياة من نوع آخر، حياة معافاة. المدينة سرداب كقاع بئر مهجورة، تصرخ ولا تسمع صراخك، وتختنق وتشعر بجهاز تنفسك وبخيالك مربوطين إلى صخرة".
يتوحد "سي محمد" أكثر مع الطبيعة، ويتعرف إلى البدوية "أحلام"، وعندما تعود زوجته نادمة بعد أن اكتشفت حبها له وأن لا معنى لحياتها بين الحيطان، يكون سي محمد قد مات. مات قلبه القديم وصارت زوجته مجرد شبح بعد أن تطهّر من كل ثقل تلك الحياة الاستهلاكية التي تمثلها زوجته منية، لكنها أيضا اللحظة التي سمع فيها بموت أحلام على يد زوجها البدوي، فحتى هذه الطبيعة يسكنها ذكور قساة.
هكذا تقدم لنا روان شخصية قصصية مختلفة وغريبة عن المخيال الروائي والقصصي العربي المعاصر، وفي الوقت ذاته تؤصلها في واقعها العربي عندما اختارت لها اسم محمد.
الحب مدار الكتابة
تدور قصص روان حول الحب كثيمة مركزية تتقاطع عندها كل الحكايات والقصص، فإما هي قصص حب فاشلة ودرامية وإما هي قصص حب جديد تنقذ الشخصيات من الموت ولو إلى حين، كما قصة "سي عادل" ذلك الستيني الذي أعدّ كل شيء ليموت، أو يستقبل الموت، كما يقول الراوي مفتتحا قصته "كان (سي عادل) قد أعدّ نفسه للقبر كما ينبغي، وكتب وصيته وقسم ممتلكاته بالعدل على أبنائه، وجلس في الشرفة كمحارب نبيل تعب من الحروب والغزوات ولا بد له الآن من أن يقف مرة أخيرة وقفة رجل شجاع أمام حياته العظيمة، لقيم مسيرته خلف أجفان العيون المتحسرة على انقضاء أمد الحياة اللذيذة، وهو في أواخر الـ60 الآن، ولا بد له ألا يرفض الموت..".
غير أن الحب يباغته في تلك اللحظات التي تقاعد فيها من الحياة، ليطلقه من جديد عبر ظهور "أسماء"، مؤكدا عبارة "بليز باسكال" التي صدّرت بها القاصّة قصتها "الحب لا عمر له، فلا أحد يدري متى يولد".
إلا أن هذا الحب الذي جاء بالحياة الجديدة فاجأه خطر آخر هو فيروس كورونا الذي هاجم أسماء، وأعاد الكرة إلى ملعب الموت من جديد.
هكذا ينهض الموت كما الحب والعنف ثيمة أخرى مشتركة بين أغلب القصص، تقلبها الكاتبة على أوجهها الفلسفية والاجتماعية والنفسية، من خلال القصّ وحده ودون إغراق في التأمل والتحليل، لتترك للقارئ حرية التأويل والتفلسف.
الأوغاد هم عالم البشر والأشرار الذين كشفتهم جائحة الكورونا، أوغاد استولوا على حياة أبطال القصص في أوقات متباعدة كان الحجْر مناسبة لكي يروهم على حقيقتهم، ويكتشفوا كم كانوا حمقى طوال تلك السنين التي تحملوهم وهم يخدعونهم ويسرقون حيواتهم.
قصص تكتبها روان بن رقية كما تكتب مسيرة رمية قوية للاعبة كرة طائرة تطير عاليا فوق الشبكة، أو فوق الحبكة لتضرب النهاية بقوة وتحرز النقطة.
مشاركة الخبر: الأوغاد لروان بن رقية.. إعادة اكتشاف الذات في زمن الكورونا على وسائل التواصل من نيوز فور مي