من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية.. قراءة وبعد
الكتاب: من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية، قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى. الكاتب: محمد الحاج سالم
دار النشر: دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى 2014.
عدد الصفحات: 930.
يواصل الأستاذ الجامعي التونسي الدكتور أحمد القاسمي، في الجزء الثالث والأخير من عرضه لكتاب "من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية" تسليط الضوء على بنية التفكير العربي وفهمه للكون ودور العامل الاقتصادي وتطور هذه البنية من الجاهلية إلى الإسلام من مدخل اقتصادي..
1 ـ في أطروحة محمد الحاج سالم ومنهجه:
يجد محمد الحاج سالم مباحث تشكل الدولة الإسلامية الأولى تتسم بالتعميم والمقاربة الجزئية التي تركز على بعد معين من أبعادها فلا تدرس الديني مثلا إلا بعزله عن الاقتصادي أو السياسي... فيغلب عليها البتر وتفتقر إلى الموضوعية. فلا تحيط الإحاطة الشّاملة الكاملة بطبيعة الصدام الذي أفضى إلى تشكلها على النحو الذي كانت عليه. فقد كانت تنقصها المعرفة العميقة بالمجتمع العربي الجاهليّ ذلك الرّحم الذي تشكلّ فيه الإسلام، وكانت تفتقر إلى تتبّع مسارات مختلف المظاهر الحياتيّة التي أثرت في المجتمع برمّته وحوّلته إلى مجتمع إسلاميّ.
ويقترح إعادة النظر في كيف انبثاق تلك الدّولة والبحث في التحولات الهيكلّية العميقة الّتي طالت مؤسسات المجتمع الجاهلي ليغدو منسجما معها، معتمدا منهجا استقرائيا ـ إناسيا ومن خصائص علم الإناسة كما نعلم دراسة المجتمعات البشرية والحضارات التي تؤسسها انطلاقا من دراسة أعراقها وآثارها ولغتها ومعارفها وعاداتها ومعتقداتها ومنظومة أخلاقها وقوانينها وفنونها ومختلف مكتسباتها الثقافية. فينبش عن أجزاء صورة الميسر المطمورة ويجمع المتناثر منها ويعيد تركيبه وتنزيله ضمن الدّين الجاهليّ.
ويقارن هذا الدين مع الأديان التي كانت منتشرة في المنطقة العربيّة لحظة ظهور الإسلام، ويرمم صورته. ومنها يعمل على تبيّن الأبعاد العَقَدِيّة الخفيّة الكامنة في هذا الدين وعلى ضبط الدوافع التي جعلت الإسلام يحرم ممارسة الميسر ويقوض مؤسستها.
وعليه، وانطلاقا من منهج الباحث ومن طرحه يمكننا أن نعرّف الميسر بكونه مؤسسة توجه الحياة في المجتمع القبليّ العربيّ ما قبل الإسلاميّ فتعتمد شعائر تمارس قبل بداية فصل الأمطار (الوسمي) وتمسرح، فعل الخلق متأثرة بالأساطير البابلية والفرعونية. وتتضمن منظومة قيم متكاملة منها الشجاعة والكرم وإغاثة المحتاجين. فالمياسرون كما جاء في لسان العرب "إذا قامروا فقمِروا أطعموا منه وتصدّقوا، فالإطعام والصدقة منفعة".
ولمسرحته لفعل الخلق تلعب فيه المرأة دورا مركزيا. فتكون ذاتا تطلب التزاوج عملا على استمرار الحياة فتلهب حماسة المشاركين غناءً ولعل دورها لا يكاد يختلف عن بنات الطارق اللواتي يعدن بأن "بفرش النمارق" وأن "يعانقن" المقدمين ويهددن المتخاذين بأن "يفارقن". وتكون موضوعا يتنافس الذكور للحصول عليها رمزيا الوليمة. ويشاء الميسر، حفاظا على الذوق السليم، أن يعوض النوق الإنسية بأخرى حقيقية تنحر ويلتهم لحمها في احتفال ديني مشترك.
2 ـ تبعات أطروحته
لفهم الميسر على النحو الذي يقترحه الباحث تبعات عديدة. فأطروحته تصادر على أنّ الفقه ابتسر مسألة الميسر. فقاربه مقاربة جزئية معزولة عن سياقه الحضاري والثقافي والعقدي ونزله في إطار رؤية أخلاقوية هاجسها تسييج الممارسات الاجتماعية وضبطها بما يتوافق مع "الشريعة" حتى "يصون" المرء من الممارسات الاقتصادية غير السوية والقمار احدها. فلم ير فيه غير الطبقة السطحية من منظومة متكاملة. فـ"الميسر لم يكن مجرّد لعبة لتزجية الوقت أو سبيلا للرّبح السّهل (القمار)، بقدر ما كان طقسا دينيّا على غاية من الأهمية وذا أغراض متعددة لعل أهمها أنه كان وسيلة لتقديم الأضاحي للآلهة بنحر الإبل المتراهن عليها على الأنصاب المعيّنة لحدود حمى القبيلة بما يقيها من كلّ عدوان خارجيّ سواء من البشر أو من الخوافي (الجنّ خصوصا)، فإذا ما عبّرت الآلهة عن عدم رضاها بخروج القدح "السّفيح" خلال اللّعب، قام المياسرون بزيادة الخطار ونحروا من الإبل ما من شأنه إرضاؤها. كما أنّ من أهمّ أهداف الميسِر توفير موارد لممثليّ "مؤسّسة الكهنوت الجاهليّة" يخصّهم بأرباح القدح الوغد وذلك إلى جانب توفير أقوات للمحتاجين بخصّهم بأرباح القدح المنيـح" ص282.
ولرؤيتهم الفقيرة تلك، لم ينتبه الفقهاء وفق الباحث، إلى أنّ التحريم يطال مؤسسة الميسر بأسرها لا البعد الاقتصادي فحسب. فأسقطوا هوسهم بضبط السلوك العام ومراقبته والتحكم فيه على تأويل النص القرآني. وأقصوا المستوى الديني والاجتماعي منه ووسعوا بالمقابل بعده الاقتصادي. فضموا إليه مختلف الممارسات المادية غير السوية كالربا وبيع الغرر.. وأدخل آخرون فيه كل لعب، بما في ذلك الخالي من الرهان. أما المقلدون من المعاصرين فاستهدفوا الحياة الاقتصادية والاجتماعية وحرّموا أنظمة التأمين ومسابقات الإشهار أو التسلية. وأظهروا عجزهم عن تمثل هذا البون العميق بين التصور الإسلامي للحياة التي تقوم على مركزية الرب في الوجود والتصور الجاهلي الذي يقوم على مركزية النجوم والوثن.
ولا تتعلق هذه التبعات بالفقهاء فحسب وإنما تشمل بنية العقل العربي الإسلامي عامة. فتصوره عقلا بيانيا عاجزا عن ابتكار الحلول المناسبة لما يواجهه من القضايا المستجدة فلا يشتغل إلا وفق آلية الاستدلال بالشاهد على الغائب، وقياسه عليه. ومن ثمة قِيس التأمين مثلا على الميسر.
ويغلب على هذا العقل الاهتمام بالألفاظ قبل المعنى مؤكدا ضمنا، أطروحة محمد عابد الجابري في "بنية العقل العربي" حين يقدر "أما في مجال الفقه، فلقد كان من نتائج إعطاء الأولوية للفظ على المعنى أن أخذ الفقهاء يشرعون للفرد والمجتمع انطلاقًا من تعقّب طرق دلالة الألفاظ على المعاني، أي من المواضعة اللغوية على مستوى الحقيقة والمجاز معًا فأهملوا، أو على الأقل همّشوا إلى درجة كبيرة، مقاصد الشريعة كما لاحظ ذلك الشاطبي، فأصبحت مقاصد اللغة ـ إذا جاز التعبير ـ هي المتحكّمة " ص 103.
ولعل الأمر يزداد فظاعة إذا ما علمنا أن هذا العقل لم يهتد إلى دلالة اللفظ الدقيقة لخلل في الكفاية اللغوية فاختزل مؤسسة الميسر بمختلف أبعادها في المقامرة وأخذ المال بنظير عوض.. ولما كان القمار لعبا انتهى إلى قياس كل لعب على الميسر ـ القمار وتحريمه بالنتيجة. ولما كان القمار أخذا للمال بنظير انتهى إلى أنّ التأمين على حوادث السيارات أو الشغل أو الممتلكات وهو أخذ مال بنظير، محرّم أيضا. وهكذا ظل يجمع، على غير هدى، بين ما يعتقد أنه مقدمات كبرى وأخرى صغرى ليبتكر النتائج المجافية لروح الدين والعصر ويطبق المنطق الأرسطي تطبيقا أعرج يجافي مقاصد الشريعة والمصلحة العامة في الآن نفسه.
3 ـ تقبل هذا الأثر ورجع الصدى المفقود
لا نعتقد أن الكثيرين يجادلون في كون هذا كتاب من البحوث العميقة والمغامرة وفي كون أطروحته قوية من جهة التوثيق والعودة إلى المصادر ومقارنة بعضها ببعض وفي تبعاته حاسمة في فهم الحضارة العربية الجاهلية وفي تمثل ما طرأ عليها وعلى منظومة قيمها من تحوّل لتتلاءم مع الدولة الإسلامية الناشئة ومع مقتضيات الدين الجديد ومنظومة قيمه.
فعمل محمد الحاج سالم كان أشبه بعمل المختص في الأركيولوجيا .لكن عمليات الحفر التي يجريها لم تكن في مواقع من الأرض قد غمرها التراب وإنما في مواطن من الذاكرة والفكر قد غمرها النسيان. وجرأته من جمعه بين الأجزاء المتباعدة والربط بينها فيما يشبه لعبة المربكة لتكوين المشهد الكامل. والأخطر أنه كثيرا ما كان يصطدم بقطع كثيرة مفقودة فيحتاج إلى تصوّرها بنفسه اعتمادا على الاستدلال وانطلاقا من هذه الصورة يتأول منعطفا مهما من الحضارة العربية تهاوت فيه الحضارة الجاهلية وآلت إلى زوال وحلت محلها حضارة بديلة ستهيمن على العالم شرقا وغربا وتظل فاعلة إلى اليوم.
ولكن التسليم بأطروحته إقرار بمصادرات منها:
أ ـ أننا لا نعرف ديننا المعرفة العميقة وأن كثيرا مما نعتبره من الثوابت والبديهيات ليس سوى تمثل سابقينا لهذا الدين من محدّثين وفقهاء وأدباء. وتمثل أسلافنا مشروط بظروف موضوعية ومادية وذهنية كانت متفاعلة مع سياقها. ومن ثمة فنحن نعيش عصرنا ونعالج قضايانا بعقول غير عقولنا وننزلها في سياق غير سياقنا وهذا مأتى غربتنا الحضارية اليوم.
ب ـ أن كثيرا مما نسيجه اليوم بالتقديس ما هوّ إلاّ تقديرات بشرية قد تجافي الحقيقة. ولكننا انتزعناها من بشريتها وخلعنا عليها التقديس ووضعناها خارج المفكر فيه.
ت ـ إن مراجعة الميسر هذه المراجعة العميقة دعوة إلى إعادة التفكير في تراثنا عامة الأدبي والبلاغي واللغوي والديني والتاريخي. فكثير من مدوناته صيغ بتأثير فهم معين لا يرقى إلى الحقيقة أو بتأثير سلطة سياسية محددة لا تريد لغير رؤيتها للأشياء أن تسود.
ولخطورة هذه المصادرات يعتقد قارئه أنه سيُحدث تفاعلا مهيبا إن قبولا وتسليما به أو دعوة إلى تعديل بعض التصورات أو رفضا وتجريحا وفضحا لتهافته. والغنم حاصل في جميع الأحوال لأن المعرفة تراكمات ترتقي بالذهن البشري ولأنها تاريخ أخطائها كما يقول الإبيستيمولجيون. فرصد الخطإ نصف الطريق إلى الصواب. ولكن للأسف فقد اقتصر التعاطي معه على بعض الدراسات الأكاديمية التي تنتهي في وطننا العجيب إلى رفوف المكتبات، بعيدا عن الحياة الاجتماعية وصخبها.
فهل يعني هذا الصمت تسليما بأطروحاته، وهل كل صمت علامة على الرضا؟
أ ـ فمنطلقات الأثر معجمية أساسا وتنزع إلى منهج المعجمي المختص في تاريخ اللغة العربية وتحولات مفرداتها ووجوه اقتراضها من غيرها من اللغات المجاورة. ولا يتعلق الأمر بفهم كلمة ميسر فحسب بل أنّ تصوره يُشكَّل من إفراغ العشرات من المفردات من دلالتها المعهودة في المعاجم ومن شحنها بمعاني أخرى تغيّر فهمنا للمسائل المطروقة تغييرا جوهريا. فتكتشف مثلا أن كلمات الزكاة والنوء والقمر كلمات واردة من ثقافات أخرى. فلا تستوطن اللغة العربية إلا وهي مثقلة برؤى أصحابها الأوائل للوجود. ولئن كان في عمله تأكيد لحاجتنا لمعجم تاريخي للغة العربية فإننا لا نراه ذلك المعجمي الذي نطمئن لكل تأويلاته المغامرة. وكنا تعتقد أنّ عملا بهذه الجرأة كفيل باستفزاز المعجميين لمناقشته فيما يذهب إليه أو على الأقل لمباركة عمله وتثمين جهده.
ب ـ الكتاب موقف قوي من المؤسسة الفقهية من داخل المنظومة الإسلامية نفسها. فهو يقدر أن الفقه، وهو العلم الذي يُعنى بفهم أحكام الشريعة الإسلامية واستنباطها من أدلتها التفصيليّة في القرآن الكريم والسنة النبوية في كل مناحي حياة المسلم بما عليه من أفعال وعبادات مكلّف بها، لم يفهم علة تحريم الميسر. ولم يدرك مؤسسته في عمقها. ولم ينجح في استنباط الأحكام المناسبة عند القياس عليه. ولكن هذه المؤسسة سكتت عن محتوى الكتاب وكأنها لم تأخذه مأخذ الجد. فلا هي راجعت مقولاتها في المبحث في ضوء نقده ولا هي ناقشت الباحث وأبرزت احترازها على أطروحته.
ت ـ كثيرا ما يتحول هذا الكتاب من دراسة للمجتمع الجاهلي وحضارته انطلاقا من دراسة لغته ومعتقداته ومنظومة أخلاقه، كما يقتضي علم الإناسة الثقافي إلى إعادة كتابة للتاريخ الجاهلي. فكان يعيد بناء الحقائق التاريخية ويزعم أنه يفحص بطريقة نقديّة علمية مصادر المعلومات المختلفة ويقدّم لنا معرفة أفضل لماضينا. فيسطو بذلك وبشكل ما، على دور المؤّرخ. ولكننا لم نجد مؤرخا يجادله أو يصوب آراءه أو يضيف إليه.
وعامة نقدّر أنّ هذا الكتاب شكّل صرخة قوية ولكنها للأسف حدثت في ساحة فكرية قفر، وعلى خلاف الطبيعة لا نسمع رجعا للصدى في ساحات الفكر القفر.
إقرأ أيضا: من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية.. قراءة في كتاب 1من3
إقرأ أيضا: الميسر الجاهلي والزكاة الإسلامية.. أي صلة ممكنة بينهما؟
مشاركة الخبر: من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية.. قراءة وبعد على وسائل التواصل من نيوز فور مي