كتابة الرائحة في الرواية العربية.. رضا الأبيض وملاحقة الروائح الكريهة والطيبة سرديا
كتابة الرائحة في الرواية العربية.. رضا الأبيض وملاحقة الروائح الكريهة والطيبة سرديا
الموقع بوست - الجزيرة نت الثلاثاء, 09 فبراير, 2021 - 12:50 صباحاً
[ "كتابة الرائحة في نماذج من الرواية العربية" للباحث التونسي د. رضا الأبيض (الجزيرة) ]
ينشغل النقد الأدبي العربي اليوم بأسئلة ومقاربات جديدة من شأنها أن تفتح آفاقا أخرى للنقد في التعامل مع المنجز الروائي، ومن ضمن هذه المقاربات الجديدة في النقد ما أقدمت عليه الباحثة السعودية مريم إبراهيم غبان في كتابيها "اللون في الرواية السعودية" و"جماليات التشكيل البصري في الرواية العربية"، وكذلك ما أقدم عليه الباحث التونسي رضا الأبيض مؤخرا في مقاربة الرواية العربية من زاوية الرائحة، في كتابه الصادر عن دار زينب "كتابة الرائحة.. في نماذج من الرواية العربية".
والحق أن الفيلسوف الفرنسي ديفيد لوبروتون في مؤلفه "أنثروبولوجيا الجسد والحداثة" توقف أيضا عند الموضوع ذاته فلسفيا وروائيا، عندما خصص قسما مهما من كتابه لروائح الأجساد ودلالتها فـ"الغلاف الشمي الذي يطلقه كل رجل، هو مثل توقيع على حضوره في العالم". قبل أن يتوغل في تحليل ذلك رابطا إياها بالخطاب العنصري الذي ازدهر في الحربين، مستعينا في ذلك بالنعوت والشتائم التي كانت تطلق والاعتقادات والخرافات السارية.
كتابة الرائحة في الرواية العربية
يصدّر الناقد رضا الأبيض كتابه بمجموعة اقتباسات؛ واحدة لبشار بن برد وأخرى لفريدريك نيتشه وثالثة لجوزيف كيبلنغ ورابعة لنزار قباني، وكلها تعلي من شأن الاختبار الشمي؛ فنزار يعتبر العطر لغة في قوله "العطر لغة لها مفرداتها، وحروفها، وأبجديتها، ككل اللغات"، أما كيبلنغ فيربط بين الشم والتعرف في قوله "إن الشرط الأول لفهم بلد أجنبي هو أن تشمه".
في المقابل، يذهب نيتشه إلى أن الأنف أداة رائعة خذلناها فلسفيا وأهملناها، فيقول "هذا الأنف على سبيل المثال، ذلك الذي لم يخصه أي فيلسوف إلى حد الآن بما يستحق من عبارات الإكبار والامتنان؛ لهو إلى حد الآن الأداة الأكثر رهافة مما بحوزتنا من الأدوات التي في خدمتنا". في حين يحتفي بشار بالشم في بيتين غزليين وصفيين تعالقت فيهما الروح والإيروس والنفَس الصوفي، فقول:
"درة حيثما أديرت أضاءت/ ومشم من حيثما شم فاحا
وجنان قال الإله لها كوني/ فكانت روحا وروحا وراحا"
توحي لنا هذه الأمثلة متعددة المرجعيات بأننا محاصرون بواقع شمي "تمأسس" وصار عالما مستقلا وهوية معلنة، وتأتي مقدمة البحث لتستدرك فتعلن أن هذا الواقع الشمي الكبير يقابله إهمال كلي في مستوى البحث والتأليف.
يقول الباحث "في عصر التورط الشمي، عصر الاعتماد أكثر على حاسة الشم في التواصل اليومي والتجارة والتعليم والزراعة والطب والمجال العسكري، وفي عصر تطوير التجارب والأدوات، وانتشار "الشم الافتراضي" لا نجد في المكتبة العربية ما يسد الحاجة ويشبع الرغبة في معرفة دقائق هذه الحاسة ومعرفة تاريخ روائحنا وأدبنا الشمي، شعرا وسردا، إلا القليل من المقالات أو الفقرات".
وهكذا اكتسب الباحث لموضوعه مشروعية واقعية، ليقلّب الموضوع في 3 أبواب؛ أولها مقاربات عامة ومداخل خاصة، كالمقاربات الفسيولوجية والنفسية والفلسفية والدينية والاجتماعية، وعنون الباب الثاني بـ"من معجم الرائحة إلى الجملة الشمية"، ووضع الباب الثالث تحت عنوان "الشم برنامجا سرديا والرائحة استعارة".
معاني ودلالات الروائح في الرواية العربية
يتقصى الباحث المعجم الشمي في الرواية العربية بداية بعناوينها المحيلة عليه، كما في رواية صنع الله إبراهيم "تلك الرائحة "، أو "روائح ماري كلير" لحبيب السالمي"، و"روائح المدينة" لحسين الواد، و"رائحة الأنثى" لأمين الزاوي، و"رائحة الصابون" لإلياس خوري، و"رائحة الكافور" لميسلون فاخر، و"رائحة القرفة" لسمر يزبك، و"فخاخ الرائحة" ليوسف المحيميد، و"رائحة الجنة" لشعيب لحليفي، و"زرايب العبيد" لنجوى بن شتوان.
ورأى أن العنوان على أهميته باعتباره عتبة نصية من شأنها أن توجه عملية التلقي، فإن "قيمة هذه المفردات وقوتها ليست بما هي وحدات معجمية دنيا مستقلة لها معنى في المعجم، وإنما قيمتها في اندراجها في الخطاب وحدات مساهمة في توجيه فعل القص ومولدة لدلالات جديدة، بل قد تستحيل مفاتيح قرائية لا يمكن القفز عليها، إذ هي التي تكشف عن التيمة الأساسية وعن رؤية الروائي الأيديولوجية وبصمته الأسلوبية".
فالرائحة عند صنع الله إبراهيم ارتبطت بالسجن والاعتقال وغرف الإيقاف، فكل ما وصفه الروائي دال على النتانة والفساد: الدم الذي يلوث الأجساد والجدران بسبب عض البق والجوع، والعنف والانحراف الجنسي"؛ فالفضاء السجني كان فضاء الروائح الكريهة والعفونة، هذه الروائح التي ستعلق بالبطل لتبقى تلاحقه حتى خارج السجن.
فتلك الرائحة كانت استعارة سياسية -حسب الباحث- فهي "تتجاوز مجرد أن تكون وصفا للماء والوحل اللذين يغمران شوارع القاهرة، لتصف حال البلاد الواقعة في أزمات سياسية واقتصادية بسبب الحروب (في اليمن، ضد إسرائيل…)، وعجز الوعود الاشتراكية عن توفير حياة سعيدة".
أما "رائحة الصابون"، فقد كانت علامة دالة على هشاشة العالم والتناقضات التي يعيشها هذا العالم المرتبك، كتبها إلياس خوري ليفضح هذا التلاشي والتذري الإنساني الذي يجعله "يزحط" وينزلق نحو الهاوية كل مرة.
أما "رائحة الأنثى" لأمين الزاوي فكانت رائحة الإنسان الحي؛ ذلك الإنسان المحظور من إعلان نفسه للعالم، فتأتي الرواية لتكشفه ضمن برنامجها السردي المحتفي بالجسد. ففي خطاب الرواية -كما يقول الباحث- "انتشرت رائحتان؛ رائحة المقاومة، بالإبداع الملتزم، لروائح نوع من الكتابة المطمئنة هي أشبه بالجثث الكريهة المعفنة"، والرائحة في "رائحة الأنثى" تتجاوز الأنثى ليتابعها الكاتب عند الرجل والحيوان والأشياء.
وعلى هذا النحو يتابع الباحث استنطاق حضور الروائح في الرواية العربية ودلالاتها السياسية والاجتماعية والأيديولوجية والفردية والدينية، فالاشتراك "في مواد المعجم لا يفضي ضرورة إلى الاشتراك في المعاني والدلالات"، وهو أيضا موضوع لفعل التأويل الحر.
ويعتبر الباحث أن تركيز الروائي العربي على حاسة الشم وتوظيفها روائيا دليل على الوعي الذي يتمتع به الروائي العربي وبحثه عن جماليات أخرى وشعرية لتقديم نصه الإبداعي والعبور به إلى إنتاج المعنى بالترميز الذكي.
وقد تتبعها الباحث في أنواعها المختلفة من الروائح الكريهة السيئة إلى الروائح الطيبة، وانتهى في بحثه إلى أن "جل الروايات اشتركت في إعادة إنتاج الترميز التقليدي؛ فالبراز والغائط والبول وزبل المواشي والخنزير والكافور والحذاء كانت غالبا مصادر للروائح الكريهة النتنة ودالة على الفقر والوسخ والألم، في مقابل الصابون والبخور والقرفة والنعناع والقهوة التي مثلت مصادر للروائح الطيبة، ودالة على الانتشاء والحب والنظافة".
الإبداع والمغامرة
ويبقى السؤال المطروح هنا عما إذا كان الروائي العربي حافظ على دلالة الروائح في المخيال الجمعي والشعبي، وحتى الديني؟ وأين يكمن الابداع؟ وأين تكمن المغامرة؟ فلم نر في المدونة المشتغل عليها انزياحا كبيرا للماثل في المخيال الجمعي عن الروائح التي نراها في الأدب الغربي تنزاح لتؤسس معنى جديدا غير ماثل فيها، ولا يحيل عليها حين تكون الرائحة الطيبة مثلا دافعا للقتل المتسلسل في رواية "العطر قصة قاتل" لباتريك زوسكيند التي تحولت لفيلم سينمائي شهير.
إن التصاق الروائي بالترميز التقليدي هو نفسه رضوخ للمخيال الجمعي. وبقي أن نتساءل: هل فعلا الروايات العربية التي حملت عناوين بإشارة صريحة عبر كلمة رائحة أو روائح أفضل الروايات التي اشتغلت على الرائحة؟
إن هذا البحث المتميز قد يكون مدخلا مهما لبحوث قادمة تتقصى الموضوع نفسه في أعمال أخرى ظلت الروائح مخفية في المتون دون إعلانها، أو أخرى معلنة كرواية "ريح الجنة" لتركي الحمد أو "بخور عدني" لعلي مقري أو "حنة" لمحمد الباردي أو "موشكا" لمحمد الشحري، وأعمال محمد شكري، و"العطر الباريسي" لأمير تاج السر، و"عطارد " لمحمد ربيع.
فالرواية العربية -كما الغربية- مليئة بالروائح من اللبان والحنة والأنوثة والفحولة والعرق والصنان إلى رائحة البارود والجيفة والموت.
ويبقى التفاوت في الاشتغال والوعي بالمسألة من روائي إلى آخر حسب ثقافته ومغامرته الروائية في قلب المعادلات الحسية أو محاكاتها، وكيف سيوظف تلك الروائح في خدمة نصه الروائي مهما كان توجهه الفني والأيديولوجي، ومهما كانت تيماته: إرهاب أو إيروس أو حنين ومنفى أو اعتقال وتعذيب سياسي؛ لتبقى لعبة الحواس في الفعل النقدي العربي مبحثا بكرا يمكن أن يكون كتاب "كتابة الرائحة" فاتحة مهمة له، خاصة إذا تخلصت البحوث من إكراهات المناهج البنيوية والإنشائية، وذهب الباحث بالمبحث إلى النقد الثقافي والفلسفي.
ولنا أن نردد في النهاية مع الباحث ما ختم به كتابه: ستحفظ لنا مثل هذه الروايات ذكرى تشكل الرائحة في أبنية وخطابات روائية، لكنها لن تكون ذات فاعلية وقوة وتأثير ما لم يتعهد الخطاب النقدي ومضاتها واختراقاتها بالقراءة والاهتمام، وما لم يتعهدها الخطاب الإبداعي ذاته بالإنصات تناصا وحوارا وتجاوزا".
مشاركة الخبر: كتابة الرائحة في الرواية العربية.. رضا الأبيض وملاحقة الروائح الكريهة والطيبة سرديا على وسائل التواصل من نيوز فور مي