اعتصامات السويداء وسهام التطييف القاتلة

لطالما تحدثت الأقلام طيلة سنوات الأزمة السورية عن الأقليات بأنها لم تساهم في الحراك المطالب بالتغيير، خصوصاً أبناء السويداء، ما أدى إلى عدم انتصار الثورة، مع أنّ هؤلاء الأبناء وغيرهم من أقليات، بمن فيهم الإخوة العلويون، لم يتوانوا مطلقاً عن المشاركة في أتونها، منذ الأيام الأولى لانطلاقتها.

يقول إياد شربتجي، وهو أحد الناشطين السوريين: "بالفعل انطلقت الحشود شيئاً فشيئاً من الجوامع، وانضم إليها شباب من مختلف الطوائف والقوميات، ولم يكن أحد في حينها يفكّر في البعد الطائفيّ للموضوع، بل ظهرت فيديوهات ومنشورات تدلل على هذا التلاحم الطائفي، منها ما تم تداوله (مسيحي في جامع دوما)، وشاهدنا الكنائس تقرع أجراسها تضامناً مع تشييع شهداء داريا، وقرأنا شهادات العشرات من النشطاء الدروز والإسماعيليين والأكراد الذين كانوا يتوافدون كل جمعة إلى مساجد الريف الدمشقي الثائر، وجامع الدقاق والحسن في منطقة الميدان في دمشق". (معهد العالم للدراسات 25 إبريل/ نيسان 2018)

وهو ما حصل حقيقة في مدينة السويداء، إذ بعد خمسة أيام فقط من اندلاع الاحتجاجات في درعا، أي بتاريخ 18 مارس/ آذار 2011، أعلن المحامون عن بيانهم المشهور، المتضمن عدداً من المطالب، من بينها رفْع الطوق الأمني المفروض، والتحقيق في إطلاق الرصاص على المواطنين، ورفْع حالة الطوارئ، وكفالة الحق الدستوري بالتظاهر السلمي، وإصدار العفو عن معتقلي الرأي، وإطلاق سراحهم، ومكافحة الفساد ومحاسبة المفسِدين.. إلخ، بعدها بأسبوع نفَّذ هؤلاء المحامون أول اعتصام نقابيّ أمام مبنى فرعهم بالمحافظة، وهم يحملون لافتات تدعو للحرية وعدم القتل، تخلّلت ذلك قراءة بيانهم المشار إليه في الشارع.

ومع اشتداد حدة الأزمة، بتاريخ 19 يوليو/ تموز 2011، دعا هؤلاء مع بقية الفعاليات في المحافظة، إلى اعتصام آخر أمام مقر نقابتهم، ما دفع بعناصر الشبيحة لتطويقه، بهدف منعهم من تلاوة بيان ثانِ، رغم ذلك تُلي البيان علناً، وهو ما دعا الشبيحة، وعلى مرأى من السلطة، للقيام بالاعتداء على عدد من المحامين المعتصمين في مقر النقابة، والتهديد بحرقه، ثم ما لبث هؤلاء أن أعلنوا عن قيامهم باعتصام مفتوح بداخله.

على الرغم من الطوق الأمني المفروض، فقد قام عدد من الناشطين وعلى مدار عدة أشهر، بتسيير المظاهرات الاحتجاجية في وسط المدينة، رافعين الشعارات المناهضة للاستبداد

وعلى الرغم من الطوق الأمني المفروض، فقد قام عدد من الناشطين، وعلى مدار عدة أشهر، بتسيير المظاهرات الاحتجاجية في وسط المدينة، رافعين الشعارات المناهضة للاستبداد. من جهتهم، قام "رجال الكرامة" بحماية عدد كبير من الشبان المطلوبين للالتحاق بالجيش، بحجة "أنّ الدم السوري على السوري حرام"، عدا عن أنّ المحافظة تحوّلت لمكان آمن لعدد كبير من المهجرين السوريين من كافة المناطق.

اليوم يقوم أبناء السويداء، ومنذ أكثر من عشرة أسابيع متواصلة، بالدعوة لاعتصام سلمي كلّ يوم اثنين في وسط المدينة، وذلك احتجاجاً على الحالة المعيشية والاقتصادية المزرية التي تطاول كافة السوريين في جميع مناطقهم من جهة، وبسبب انسداد أفق الحلول السياسية من جهة أخرى.

على التوازي مع هذه الدعوة يقوم هؤلاء بالتأكيد على دعوة بقية السوريين للقيام باعتصامات مشابهة، كلّ بمنطقته، بهدف تجميع الأصوات وتظافر الجهود، إلا أنّ هذه الدعوات، وبدلاً من أن تلقى استحساناً وتجاوباً لدى جميع السوريين، الذين يكتوون بالأوجاع نفسها ويتخبطون بالمصير نفسه، تقوم بعض الأصوات الطائفية الهدّامة بالعزف على هذا الموضوع من جديد، من خلال الطعن بالأهداف التي يسعى لتحقيقها هؤلاء، والتشكيك بجدوى هذه الاعتصامات، ومن ثم تبخيس الدور الوطني الذي يقومون به، لدرجة القول إنّ "مطالبهم ليست مطالب حرية وكرامة، إنما هي مطالب من أجل سد الجوع ليس إلا"! ومن ثم توجيه اللوم لهم بالقول: "لو أنهم طلعوا من البداية" مكرّرين أسطوانة التخوين نفسها، إلى آخر ما هنالك من اتهامات وتوصيفات، وهو بالنتيجة ما يصب في مصلحة المنظومة الاستبدادية، المتمثلة في تعطيل أي حراك من شأنه المطالبة بالتغيير.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما الذي يريده هؤلاء؟ هل يريدوننا أن نستسلم لترهاتهم وأحقادهم التاريخية التي لا تقل خطورة عما فعلته السلطة القمعية وحلفاؤها في الداخل والخارج، كما لا تقل خطورةً عما قام به شركاؤهم من تنظيمات متطرفة بقتل هذا الحراك الذي بدأ سلمياً، وانتهى بهذا الهلوكوست الدامي؟

بدأ هذا الحراك بشعار "واحد واحد الشعب السوري واحد" تردده 260 تنسيقية محلية، أواسط عام 2011، لينتهي على يدهم "بالذبح جيناكم"، بدأ بجمعة "الكرامة وجمعة آزدي وصالح العلي ومشعل تمو" من أصل 93 جمعة، وانتهى بجمعة 21 سبتمبر/ أيلول 2012 "أحباب الرسول في سورية يُذبَحون".

ثم أي خطاب وطني جامع يرفعه هؤلاء؟ وأي وطن يريدون؟ ففي حين يقوم أبناء السويداء عبر بياناتهم الأسبوعية بدعوة جميع السوريين في الداخل والخارج للدخول في محراب الحرية والمواطنة والدولة المدنية الديمقراطية، التي تجمع كل السوريين، ويختمون بياناتهم بالقول: "هنا السويداء" و"هنا سورية"، يقوم شركاء هؤلاء بالتأكيد على أن "حربهم في هذه المعمورة إنما هي حرب وجود لا حرب حدود"، أي لا مكان لغيرهم في هذه الأرض.

قبل أيام معدودات، وبالتزامن مع اعتصامات السويداء، احتشد جمعٌ غفيرٌ في ما أطلق عليها المناطق المحررة، احتجاجاً على التقارب التركي السوري، استهل المتحدث باسمهم بيانه بالقول: "نحن أولياء الدم، نحن أهل الثورة.. ثورة أهل الشام". وعلى الرغم من أن المتحدث قد كرر الحديث الشريف: "لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحد مرتين"، إلا أنه أخذ يكرر الخطاب الإشكالي نفسه، من خلال الدعوة لتحرير البلاد وإقامة حكم الإسلام، قبل أن يختم بيانه بالتكبير، ليُلدغ من الجحر نفسه الذي لُدغ منه خلال أكثر من ألف عام ملايين المرات.

وبدلاً من أن يقوم هؤلاء بمباركة أي فرصة من شأنها توحيد الصفوف لدى عامة الشعب السوري، وصولاً للأهداف المرجوة، فإنهم يمارسون الأدوار الهدّامة نفسها التي بسببها ضاع الشعب وضاعت معها الأوطان، وبالتالي مثلما ساهم هؤلاء بإجهاض مطالب السوريين في التحرر وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية وسيادة القانون، يُمعِنون اليوم بتقديم الخطاب الهدام نفسه، بما يضمن إجهاض هذا الحراك السلمي، وإطالة عمر الأزمة القائمة والإبقاء على ما يشهده الشعب السوري من تشظٍ وفوضى وضياع إلى ما لا نهاية.

ختاماً، لم يتعلم هؤلاء من الجُحر الذي لطالما لدغوا منه عبر التاريخ، فأجهضوا بذلك أحلام السوريين في التحرر من ربقة الاستعباد، بعدما عسكروا هذه الثورة وأرهبوا العباد، فخاف من نتائجها الغريب قبل القريب.

مشاركة الخبر: اعتصامات السويداء وسهام التطييف القاتلة على وسائل التواصل من نيوز فور مي