
"بلطجي الحارة".. عقيدة المحافظين الجدد التي دمَّرت العراق وفتحت الباب لترامب
مقدمة الترجمة:
لماذا غزت الولايات المتحدة العراق حقا؟ وما الذي يخبرنا به هذا الغزو عن سياسة المحافظين الجدد التي لا تزال تُلقي بظلالها على السياسة الأميركية إلى اليوم؟ في هذا المقال، المنشور في مجلة "فورين أفيرز"، يجادل ستيفن وِرتهايم، الزميل الأول في برنامج إدارة شؤون الدولة الأميركية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي والمحاضر الزائر في كلية الحقوق بجامعة ييل والجامعة الكاثوليكية، أن عقيدة التفوق الأميركي كانت هي السبب الحقيقي وراء الغزو الكارثي، وأن هذه العقيدة لا تزال تُهدِّد بإشعال حروب أوسع نطاقا ما لم تغير الولايات المتحدة نظرتها إلى العالم.
نص الترجمة:
قبل عشرين عاما، غزت الولايات المتحدة العراق، وأمضت عقدا كاملا في تفكيك البلاد ومحاولة تركيبها من جديد، ثمَّ أمضت عقدا آخر في محاولة نسيان ما جَرَى. "لقد أتمَمْنا واجبنا، والآن حان الوقت لطيِّ تلك الصفحة"، هكذا تحدَّث الرئيس الأميركي السابق "باراك أوباما" أمام شعبه عام 2010 حين أعلن نهاية المهمة القتالية الأميركية في العراق (التي سرعان ما ثبُت أنها نهاية قصيرة). بحلول عام 2021، أتى الدور على الرئيس "جو بايدن" كي يَحُث بلاده على المُضي قُدُما وتجاوز كوارث عالم ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، حيث قال: "لقد طوينا تلك الصفحة". ولكن هل طَوَت الولايات المتحدة صفحة حرب العراق حقا؟
على مدار العقدين الماضيين، رفض الأميركيون أن يمضوا قُدُما وينسوا العراق، ويرجع السبب في ذلك جزئيا إلى أن الجيش الأميركي لا يزال يحارب هناك وفي بضعة مواقع أخرى، والسبب الأهم أن البلاد لا يسعها أن تطوي الصفحة بدون قراءتها وفهمها. قد يكون مؤلِما أن يعود المَرء إلى دوافع القادة الأميركيين لغزو بلد لم يهاجم الولايات المتحدة أبدا، ولم يُخطط لمهاجمتها أصلا. وقد استوعبت واشنطن بالفعل الكثير من الدروس القاسية من حربها على العراق، وبات عامة صناع القرار والسياسيين والخبراء الأميركيين يرفضون مبدأ شن الحرب لتغيير نظام حاكم أو إعادة بناء دولة ما، كما اكتشفوا أن الديمقراطية نادرا ما تنشأ بفرضها من خلال فُوهَة مُسدَّس، وتحتاج إلى جهد شاق لتأسيسها وحمايتها، حتى في أعتى الدول الديمقراطية مثل الولايات المتحدة نفسها.
عُرف أوباما بمعارضته للحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2002، ووصفه إياها بأنها "غبية" و"هوجاء". ولعل موقفه من العراق مَثَّل نقطة التفوُّق الرئيسية له في حملته لنيل بطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي. (رويترز)إن تلك الدروس ضرورية بالفعل، لكنها غير كافية، إذ إنها تختزل حرب العراق في كونها خطأ على مستوى السياسات يمكن تصحيحه في خضم سعي الولايات المتحدة لتبوُّء موقعها بوصفها قوة مُهَيمنة على العالم، وهو موقع منحته لنفسها إبَّان نهاية الحرب الباردة. بيد أن قرار غزو العراق، في الحقيقة، نتج عن مهمة السعي للصدارة العالمية نفسها. لقد دفعت الرغبة في الهيمنة بالولايات المتحدة إلى تمويل جيش ضخم ونشره في كل أنحاء الأرض من أجل هدف وقائي في المقام الأول، وهو إثناء أي بلد آخر عن النهوض وتحدي السيطرة الأميركية. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، سعى مهندسو حرب العراق لتعزيز الحضور الأميركي في الشرق الأوسط وما وراءه، وبإظهارهم الشِّدة والحَزم في استهداف خصم مُزعِج في نظرهم لم يكن ضالعا أصلا في هجمات 11 سبتمبر/أيلول، بَرهَنت واشنطن على أنه لا فائدة من مقاومة القوة الأميركية.
بيد أن إستراتيجية "الصدمة والترويع" سرعان ما فتحت باب الفوضى والدمار والموت وموجة تمرُّد ضد القوات الأميركية، ومن ثمَّ كان من المفترض أن تسحب إخفاقات الحرب البساطَ من تحت مشروع الهيمنة الأميركية الذي أفرز تلك الحرب. ولكن مهمة الهيمنة والصدارة العالمية ظلت حيَّة. واليوم، بينما تواجه القوة الأميركية مقاومة متزايدة في شتى أنحاء العالم، تسعى واشنطن لمجابهة معظم تجليات تلك المقاومة في كل مكان؛ إصرارا منها على خلط مفهوم المصالح الأميركية بمفهوم بثِّ القوة الأميركية عالميا. وقد كانت نتيجة تلك العقلية أثناء لحظة "القُطب الواحد" قبل عشرين عاما مدمرة بما يكفي، أما الإصرار عليها اليوم في مواجهة قوى كُبرى مُسلحة بالرؤوس النووية فلن يخلق إلا دمارا أشد.
البلطجي الذي لا مفرَّ منه
لقد تشكَّلت الأسس الأيديولوجية لحرب العراق قبل أن تتقدَّم الدبابات الأميركية إلى بغداد عام 2003. فقبل أن تنطلق نيران الحرب بنحو عشر سنوات، عَكف ثلاثة من رجال البنتاغون، الذين صاروا فيما بعد مسؤولين بارزين في إدارة "جورج بوش" الابن، على بلورة مفهوم جديد لتسيير دفة الإستراتيجية الأميركية في عالم ما بعد الحرب الباردة، وهُم "ديك تشيني" و"كولِن باول" و"بول وولفويتز". ورغم انهيار الاتحاد السوفيتي، أراد هؤلاء الثلاثة من واشنطن أن تواصل بثَّ تفوُّقها العسكري بطول الأرض وعرضها. وفي عام 1992، صاغ "باول"، رئيس هيئة الأركان المشتركة حينئذ، هذا الهدف بصراحة شديدة في حديث أمام الكونغرس، قائلا إن الولايات المتحدة يجب أن تمتلك "القوة الكافية" كي "تردع أي منافس لها عن أن يحلم حتى بأن يتحدَّانا على مسرح النظام الدولي. إنني أريد أن أكون البلطجي الواقف على ناصية الحارة".
بول وولفويتز (رويترز)لم يختلف "تشيني" كثيرا مع هذا الهدف، فقد عمل وقتها وزيرا للدفاع في إدارة "جورج بوش" الأب، وأوكل إلى نائبه حينها "وولفويتز" أن يُشرف على صياغة "دليل التخطيط الدفاعي"، وهو إطار شامل للسياسة الأمنية الأميركية كُتب عام 1992. وقد شرح "وولفويتز" وزملاؤه في 46 صفحة كيفية المحافظة على الهيمنة العالمية للولايات المتحدة في غياب أي منافس قوي. وقالوا إن مربط الفرس هو التفكير والتحرُّك بشكل وقائي، أي إن الولايات المتحدة يجب أن تتحرَّك لمنع ظهور منافسين جُدُد لها من الأصل ما دامت ليست بصدد منافس جِدي فعلي (في ذلك الوقت)*، وأنها يجب أن تُثني "منافسيها المُحتملين عن مجرد التطلُّع إلى لعب دور إقليمي أو دولي أكبر". ولتحقيق ذلك الهدف، تحتاج الولايات المتحدة إلى امتلاك جيش ضخم تتضاءل أمامه بقية الجيوش ويستطيع أن يخوض حربَيْن كبيرتَيْن في الوقت نفسه، وكذلك صيانة تحالفاتها ووضع قواتها في كل منطقة من العالم تعتبرها واشنطن ذات أهمية إستراتيجية. باختصار، كان على واشنطن أن تستبدل بنظام توازن القوى المعمول به سابقا نظام الحضور الطاغي للقوة الأميركية.
بموجب تلك الرؤية للهيمنة الأميركية، كان من المفترض أن تنتهج الولايات المتحدة سياسات "من أجل الخير"، أي أن تستوعب مصالح حلفائها الأساسية وتعمل من أجل رخاء العالم كله تقريبا. وفي خضم صياغة تلك السياسة الخارجية، أوصى مسؤولو البنتاغون بأن تضع بلادهم "مصالح البلدان الصناعية المتقدمة في اعتبارها بما يكفي بحيث تُثنيها عن تحدي قيادتها أو قلب النظام الاقتصادي والسياسي القائم". ويعني ذلك أن تعريف الهيمنة الأميركية لم ينطوِ فحسب على تثبيط الحضور الأمني لأعداء الولايات المتحدة، بل ولحضور حلفائها أيضا. وثمَّة مشكلتان أساسيتان في تلك النظرية، وسرعان ما ظهرتا إلى السطح حالما سُرِّبت نسخة من دليل "وولفويتز" إلى الصحافة في مارس/آذار 1992، أولهما أن سعي واشنطن للهيمنة قد يدفع الآخرين إلى مقاومتها، فبدلا من الخضوع لشروط سلام أبدي تُمليها واشنطن، ستحاول بعض البلدان أن تطور إمكانياتها لمقارعة القوة الأميركية.
بينما أخذت روسيا تلملم جراحها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، وأخذت الصين تواصل سعيها للخروج من براثن الفقر، وجدت الولايات المتحدة أنها لن تواجه معارضة ملموسة لسنوات قادمة. ولكن كلما وسَّعت القوة العُظمى الوحيدة في العالم من التزاماتها الدفاعية وحضورها العسكري، أمكن أن تواجه معارضة لها، بل وأن تحفِّز ظهورها بنفسها بالفعل. أما المشكلة الثانية فهي أن واشنطن سرعان ما حمَّلت نفسها فوق طاقتها، وخاطرت بخوض حروب غير ذات صلة بالمصالح الأميركية، اللهم إلا تلك المصالح التي جرى الترويج لها بوصفها جزءا من ضرورة الهيمنة العالمية في المقام الأول.
إن ما أراده البنتاغون في عهد "تشيني" من وراء الهيمنة الأميركية هو أن يجعل من مقاومة الولايات المتحدة أمرا لا فائدة تُرجى منه؛ بحيث لا يحاول أحد خوض غمارها من الأساس. (غيتي)ما إن نُشِر دليل البنتاغون عام 1992 حتى أشعل ردود فعل رافضة له، فقد انتقده المحلل المُحافِظ "بات بوتشانان" نقدا لاذعا، قائلا إن الخطة الموضوعة "وصفة لتدخلات (عسكرية) أميركية لا نهاية لها". وبالمثل، أثار الطموح من أجل الهيمنة الصريحة حفيظة أبرز رجال الحزب الديمقراطي، الذين آثروا أن تتحمل واشنطن نصيبها فقط من مسؤوليات السلام والأمن الجماعي في العالم. وقد علَّق "بايدن"، السيناتور بالكونغرس آنذاك، على الدليل تعليقا ساخرا، قائلا: "إن البنتاغون يعود بنا إلى فكرة عتيقة عن الولايات المتحدة باعتبارها شرطيَّ العالم". لقد تَشكَّل إجماع عام بين الدول الغربية من أجل احتواء الشيوعية السوفيتية ردا على خطر حقيقي من قوى عُظمى قائمة. أما أن تضطلع الولايات المتحدة بوظيفة الشرطي لعالم ما بعد الحرب الباردة، الذي عجَّ بالتحديات ولكن دون عدو كبير واضح؛ فكانت حُجة جديدة وغير مُجرَّبة لم يهضمها كثيرون في واشنطن وقتها.
إن ما أراده البنتاغون في عهد "تشيني" من وراء الهيمنة الأميركية هو أن يجعل من مقاومة الولايات المتحدة أمرا لا فائدة تُرجى منه؛ بحيث لا يحاول أحد خوض غمارها من الأساس. ولكن ماذا لو أن المقاومة التي نشأت بالفعل هي التي جعلت تلك الهيمنة الأميركية بلا فائدة تُرجى منها؟
البلطجي الذي لا يريده أحد
شكَّلت التسعينيات ذروة نظام القُطب الواحد الأميركي، لكن إشارات المعارضة الدولية واللامبالاة داخل أميركا ظهرت بجلاء أيضا. فقد عملت الصين وروسيا على حل خلافاتهما الثنائية وبدأتا تأسيس "منظمة شانغهاي للتعاون". وفي عام 1997، أعلنتا في خطاب إلى مجلس الأمن بالأمم المتحدة أنه "لا يجب على أي بلد أن يسعى للهيمنة، أو أن يخوض سياسة الصراع بين القوى الكُبرى، أو أن يحتكر الشؤون الدولية". بل إن بعض حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم عبَّروا عن أفكار مشابهة، فبعد عامين، قال وزير الخارجية الفرنسي "هوبِرت فِدرين" إن الولايات المتحدة باتت "قوة مُفرِطة"، داعيا إلى "تعددية أقطاب حقيقية".
كانت الدول الأكثر استفزازا للولايات المتحدة حينها هي "الدول المناوئة" مثل إيران وليبيا وكوريا الشمالية، وبالأخص العراق. فبعد طرد القوات العراقية من الكويت عام 1991، لم يحاول الجيش الأميركي إسقاط "الديكتاتور" العراقي "صدام حسين"، لكنَّ المسؤولين الأميركيين تطلَّعوا إلى سقوطه وشجَّعوا الخروج عليه بدعم انتفاضات الأغلبية الشيعية في الجنوب والأقلية الكُردية في الشمال. وحين حافظ صدام على سلطانه وقمع تلك الانتفاضات وقتل الآلاف من العراقيين، لم تتراجع واشنطن عن هدفها. فعلى مدار عشر سنوات، احتوَت الولايات المتحدة قوة العراق عبر فرض مناطق حظر طيران في أنحاء البلاد، وتنفيذ عمليات قصف بين الحين والآخر، والتفتيش للتأكد من عدم وجود أسلحة دمار شامل، وتطبيق عقوبات اقتصادية على النظام. ولتحقيق تلك الأهداف، وضعت الولايات المتحدة الآلاف من قواتها في منطقة الخليج لأول مرة في تاريخها.
(غيتي)تبنَّى "بيل كلينتون" هدف سلفه ببسط هيمنة الولايات المتحدة على الشرق الأوسط، وانتهج سياسة "الاحتواء المتبادل" لإيران والعراق، لكن ذلك لم يكن كافيا لإرضاء صقور اليمين. ففي عام 1997، دشَّن المُفكِّران "ويليام كريستول" و"روبِرت كاغان" مركز أبحاث "مشروع القرن الأميركي الجديد"، الذي كرَّس بحوثه من أجل صياغة سياسة خارجية مبنية على "الصلابة العسكرية والوضوح الأخلاقي". وقد مَثَّل عراق صدام حسين في نظر الرجلين مهمة لم يتم الانتهاء منها كما ينبغي، إذ إن "الديكتاتور" العراقي على وشك الحصول على أسلحة دمار شامل قابلة للاستخدام -على حد قولهم- لتحدي القوات الأميركية وحلفائها في المنطقة. ولذا، كان على الولايات المتحدة أن تسعى من أجل تغيير النظام الحاكم في العراق، وذلك وفقا لخطاب مفتوح لمركز الأبحاث المذكور عام 1998، وهو خطاب تزيَّن بتوقيعات "رامسفيلد" و"وولفويتز" وغيرهما ممن صاروا مسؤولين بعد بضع سنوات في إدارة بوش الابن.
سرعان ما أصبح الهدف سياسة أميركية رسمية حين مرَّر الكونغرس قانون تحرير العراق بأغلبية كاسحة. ولم يكن صعود هذا "الإجماع لتغيير النظام الحاكم"، كما سمّاه "جوزيف ستيب" مُدرس شؤون الأمن القومي بالكلية البحرية الأميركية، ينطوي على احتمال حقيقي بغزو شامل للعراق قبل 11 سبتمبر/أيلول. ولكنه سحب شرعية الرؤية البديلة له، التي قالت بترك صدام في موقعه بالتزامن مع تنفيذ سياسة لاحتوائه. لقد وضعت واشنطن صوب عينيها رغبة صريحة في إقصاء صدام.
عادة ما يتذكر كثيرون في واشنطن إعلان "مادلين أولبرايت"، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، بأن الولايات المتحدة باتت "أمة لا غِنى عنها" (للنظام الدولي والأمن والسلام العالمي)* ولكنهم يتناسون أنها قالت ذلك أثناء اجتماع مُتلفَز عام 1998 في ولاية أوهايو، وفي معرض دفاعها عن السياسات الأميركية تجاه العراق، وأنها قوبلت بسَيْل من الأسئلة العدائية، وأحيانا ما نالها الهجوم المُباشر. بيد أن العقد الأول بعد نهاية الحرب الباردة أثبت أن هذا النوع من المعارضة لن يتبلور إلى قوة سياسية فعَّالة ما دامت واشنطن تنجح في ممارسة هيمنتها العالمية دون تكلفة تُذكر.
ا&
مشاركة الخبر: "بلطجي الحارة".. عقيدة المحافظين الجدد التي دمَّرت العراق وفتحت الباب لترامب على وسائل التواصل من نيوز فور مي