الديكتاتورية الإعلامية
نتباهى بحرّيتنا في الكتابة والتعبير عن آرائنا الخاصة والعامة في منصّاتنا الإعلامية الخاصة والعامة، ولكن هل نحن أحرارٌ فعلا؟ هل نستطيع قولَ ما نشاء وكتابته وقت ما نشاء وأين ما نشاء ما دمنا ملتزمين بقاعدة عدم الإضرار الشخصي بالآخرين، وعدم مخالفة القوانين المعمول بها في بلداننا وحيث ننشر؟ أم أننا، في واقع الأمر، خاضعون لديكتاتورياتٍ ذات نمط جديد في الفكرة والأسلوب والأثر، غير مرئيةٍ أحيانا، تتحكّم بما نقول ونكتب، ومن دون أن نشعر؟
تعيش المجتمعات اليوم في عصر تتغيّر فيه الديكتاتوريات غالبا، وتتّجّه نحو صور جديدة من السلطة والتحكّم، فقد أصبحت الديكتاتورية العسكرية قديمة العهد في كثير من الأنظمة السياسية، ورغم إصرار بعض الأنظمة السياسية البالية عليها إلا أن معظم الأنظمة تستبدل بها حاليا ديكتاتورياتٍ جديدةً تعتمد على الإعلام، بكل معطياته وأدواته، باعتباره القوة الناعمة الأولى في التحكّم بالشعوب!
هذا ما أشار إليه الفنان والكاتب الأميركي الناشط في مجال حقوق الملوّنين، داني غلوفر، عندما قال: "أصبحت الديكتاتورية الإعلامية اليوم بديلاً للديكتاتورية العسكرية".
في زمننا الحالي، تسيطر الكيانات الاقتصادية الكبرى، والتي لا يمكن أن تستمرّ بالقوّة والتوسّع من دون الرعايات الحكومية المباشرة وغير المباشرة، على وسائل الإعلام، وتستخدمها أداة لتشكيل الرأي العام والتحكّم في النقاشات الحرّة. تمتلك هذه الكيانات الاقتصادية النفوذ والقوة المالية، ما يمنحها القدرة على تحديد من يمكنه التحدّث ومن هو الشخص الجيد ومن هو السيئ، من وجهة نظر ملّاكها والمسيطرين عليها، في المجتمع.
واحدة من الأدوات التي تستخدمها الكيانات الاقتصادية امتلاك وسائل الإعلام التقليدية والرقمية، فهي تستثمر بشكل واسع في شراء الصحف والقنوات التلفزيونية والمواقع والمنصّات والحسابات الإلكترونية، وبالتالي تتحكّم بمحتواها وتوجّهاتها ولمن يستخدمها أيضا. ومن خلال فرض السيطرة على المعلومات والأخبار المنشورة وكميتها وطريقة نشرها ومواعيده، تستطيع توجيه الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي.
وبالإضافة إلى ذلك، تستخدم الكيانات الاقتصادية أيضًا القوة المالية للتأثير في ما يسمّى الإعلام المستقل، فهي تشتري حقوق البث والات وتوجّه التمويل المالي لكثير من تلك المشروعات الإعلامية المستقلة وشبه المستقلة. وبالتالي، تستطيع تحديد مسار التغطيات الإعلامية وتعزيز الرؤية الخبرية التي تخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية، وقبلها الثقافية والفكرية.
وتعتبر هذه الديكتاتورية الإعلامية خطرة للغاية، حيث تعوق الحوار العام وتضيّق المجال أمام التنوّع الفكري والرأي المتنوع، فعندما تسيطر الكيانات الاقتصادية الكبرى على وسائل الإعلام بكل أنواعها، لن نستغرب إن قمعت الآراء المختلفة وتجوهلت المشكلات الجوهرية التي يحتاج المجتمع مناقشتها.
علاوة على ذلك، يمكن أن تؤثر الديكتاتورية الإعلامية أيضًا في سياسات الحكومات واتخاذ القرارات المصيرية العامة، فعندما تستطيع الكيانات الاقتصادية توجيه الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي، تصبح لديها القدرة على التأثير في سياسات الحكومات وتوجيهها نحو مصالحها الخاصة، وهو مما قد يعرّض مبدأ الديمقراطية وحكم القانون للخطر، حيث يفقد المواطنون حقّهم في التعبير عن آرائهم والمشاركة في صنع القرارات العامة، كما سيفقد الرأي العام قوته الافتراضية تبعاً لذلك.
ولمواجهة تلك التحدّيات، بنبغي أن نكون واعين لقوة الإعلام وتأثيره على حياتنا اليومية، فنسعى إلى التنويع في وسائل الإعلام دائما، ونبحث عن مصادر متعدّدة وموثوقة للمعلومات، ونشجّع النقاش العام واحترام وجهات النظر المختلفة.
وعلى المستوى السياسي، ينبغي أن تتّخذ الحكومات الديمقراطية إجراءات لضمان استقلالية الإعلام وحرّيته، وتقييد السيطرة الاقتصادية عليه، ذلك أن الديكتاتورية الإعلامية تمثل تحدّيًا كبيرًا للحرية والديمقراطية وحقّ الفرد في المعلومة الصحيحة، وبالتالي، خطرها أكبر مما نتوقّع لأنه يتجاوز حدودها الإعلامية المباشرة نحو كل ممكنات حياة الفرد وفرصه في الحرية.
مشاركة الخبر: الديكتاتورية الإعلامية على وسائل التواصل من نيوز فور مي