دولة الرعاية
نشأ النظام السياسي العراقي الجديد وأُنشئت الدولة العراقية بعد العام 1920 برعاية واضحة من قوّة الاحتلال في وقتها المملكة المتحدة. وظلّ الوجود البريطاني مدار نقاش وصراع بين النخب السياسية وصفحات الجرائد العراقية إلى ثلاثة عقود، وكانت مطالب القوميين والشيوعيين، التي يكرّرونها دائماً، جلاء الوجود العسكري البريطاني وفكّ ارتباط العراق بالجنيه الإسترليني وتأميم المصالح الاقتصادية، وأهمها المنشآت النفطية.
وبالتدقيق، سنرى أن القوميين كانوا يفكّرون بالانتقال إلى دولة رعاية أخرى، هي مصر ومعسكرها العالمي، والشيوعيون كانوا يعتبرون، بشكل بديهي، أن الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الاشتراكي هم مظلة الرعاية المفضّلة.
حدث بعد ثورة 1958 أن النخب العسكرية والسياسية وجّهت العراق إلى هذين الراعيين، وفكّ الارتباط مع دولة الرعاية البريطانية. وظل الاتحاد السوفييتي راعياً للأنظمة السياسية المتلاحقة حتى مطلع التسعينيات، والتي صادفت دخول العراق في عزلة العقوبات الدولية، وأيضاً الخضوع إلى إكراهات القطب الواحد الذي مثّلته أميركا، وسيطرتها على النظام الدولي.
من المفارقات، مثلاً، أن حكومة العسكريين الثوار نقلت مشروع بناء فندق الهيلتون في بغداد من الشركة الأميركية التي كانت تعمل عليه بناءً على عقد مع النظام الملكي السابق إلى شركة سوفييتية، ثم توقّفت الأخيرة عن العمل في المشروع وأهمل بعدها. لم يفكر العسكريون بـ"المصلحة الوطنية" قدر تفكيرهم بالتخادم مع دولة الرعاية. وهذا التخادم هو الذي جعل التسليح الأساسي للعراق في ظل نظام صدّام حسين روسيّاً، وفوجئ كثيرون، تحت ضغط الهجمات الإرهابية لتنظيم القاعدة، بجلاء عشرات من الخبراء الروس في محطات توليد الطاقة الكهربائية ومصافي النفط في العراق، فهم كانوا المعتمدين فيها، وفي مرافق حيوية أخرى.
انقلب الحال بعد 2003 لتكون أميركا الدولة الراعية للنظام السياسي الجديد، وهي تمارس هذا الدور، ولكن ليس باتساق وسلاسة، وإنما بالتزاحم مع دولة رعاية أخرى دخلت على الخط، إيران التي يعتمد العراق بشكل أساسي على الكهرباء التي يستوردها منها، كما أنّ جزءاً كبيراً من السوق الاستهلاكي للمواد الغذائية والصحية وبعض الصناعات الخفيفة يأتي من إيران. حتى المنتجات الزراعية، وفي السنوات الأخيرة، صارت دور النشر تطبع في المطابع الإيرانية لرخص أجورها قياساً بالمطابع اللبنانية.
الاعتماد الاقتصادي على إيران كبير، ولا يمكن سدّه هكذا بجرّة قلم. ولكن، سوى ما ذُكر، لا تستطيع إيران تعويض الأدوار التي تقوم بها أميركا لـ "رعاية" العراق. بل هي ربما لا تفكّر بتولي هذه الأدوار مطلقاً، وإنما تستفيد من رعاية أميركا العراق في التنفيس عن أزمتها الاقتصادية الخانقة بسبب العقوبات الطويلة.
ومثلما كان الأمر في بدايات القرن العشرين مع النخب العراقية المتبرّمة والمنزعجة من دور الرعاية الذي كانت تمثّله بريطانيا، وأنه يسلب جزءاً من السيادة والاستقلال العراقيين، فإن نخباً عراقيةً كثيرة اليوم ترى هذا الاعتماد الكبير على أميركا يمثل واحداً من أشكال الاحتلال الناعمة، وأن اكتمال السيادة العراقية لن يكون إلا بالتخفّف من ضرائب الاعتماد على أميركا في حماية واردات النفط وفي الدعم اللوجستي والاستخباري ضد خلايا تنظيم داعش، وفي تزكية العراق مالياً واقتصادياً للتعاقدات مع الدول الأخرى، وغيرها من ملفّاتٍ تُمسك بها أميركا بقبضة صلبة.
لكن هذه الأصوات تنظر إلى جذر المشكلات، وتحاول التنبيه إلى حلّها، أو على الأقل؛ وضع استراتيجية واضحة لحلّها. أما توجيه الضربات بالصواريخ على المعسكرات العراقية التي فيها متقاعدون أميركيون فلا يقدّم حلاً، وإنما هو يربك الحكومة العراقية، وقد يقود إلى تأزيم العلاقات بينها والولايات المتحدة، بدلاً من تنشيط الحكومة، والنخب السياسية العراقية بشكل عام، لتسريع الخطط لإنهاء دور الرعاية. كما أن أدوار الرعاية، على الرغم من كل المعاني السلبية، تختلف، بشكل ما، عن أدوار الهيمنة والاستلحاق والإخضاع السياسي بالترهيب والسلاح المنفلت، وإفراغ النظام الديمقراطي من محتواه وخنق الحريات وتكميم الأفواه، هذا الذي يستطيبه الطرف المتحمّس لجعل إيران دولة الرعاية الجديدة للعراق، وكأن قدَر هذا البلد أن يبقى ضعيفاً يحبو، ولا يستطيع أن يدير شؤونه بنفسه، أو أن ينشئ نظاماً سياسياً واقتصادياً مستقلاً، يدير علاقاته مع الدول المختلفة على أساس الندية والمصالح المتبادلة.
مشاركة الخبر: دولة الرعاية على وسائل التواصل من نيوز فور مي