في الحنين إلى الخلاص من عنف الاستعمار
يعيش العالم الآن على وقعِ العنف، الاستعماري بشكل خاص، وصور العنف في أماكن كثيرة من العالم، وخصوصاً في ما يُسمّى "الشرق الأوسط". والعنفُ شيء بغيض بحدّ ذاته، فهو انشغال الروح بذاتها وبقائها بدلاً من انشغالها بالحياة، وما فيها ممّا يُثري الروح ويسمو بها، نحو النهاية التي هي مصير كلّ إنسان. العنف حالة تشويه للإنسان، يصيبه في أعزّ ما يملك، وإن لم يكن مباشراً ومعطباً للجسد، فهو بلا شكّ من مهلكات الروح والمشاعر، وتتأثّر به سلباً كلّ الكلّيات العقلية والحسية.
في حالة الإنسانية المستقيمة، لا يجب على الإنسان أن يفرّق بين البشر، ولا يجب أن يفكّر إلّا في ما يرتقي بالحياة مع النفس والآخرين، ويُفضي إلى الشعور بالسلم والأمان والسموّ. حينها ينشغل الإنسان بالجمال، جمال الطبيعة وجمال الإنسانية حيثما وُجدت، والبشر من ناحية العلاقات الاجتماعية وغيرها، والتي تولّد مشاعر الودّ والدفء.
لكن الحياة البشرية نادراً ما تتّكئ على استقامة تامّة، فلا تخلو من العنف. إنّها مليئة بآفات السياسة، والسياسيّين، والقوّة والتدافع المقيت من أجلها. ولأنّ السياسة الحديثة نادراً ما تحيد عن طريق المصالح الضيّقة، وتعجّ بالتفرقة على أساس الدين والعرق واللون والأيديولوجيا، يصبح العنف في هذه الحالة حالة إخضاع على سبيل الاستعباد، وينطبق هذا بشكل كبير على "إسرائيل" وجحيم النار الذي تصبّه على رؤوس الناس في غزة كلّ يوم لأكثر من مئة وعشرين يوماً.
يُفرض العنف كطريقة حياة على الفلسطينيّين والعرب عموماً
لا بدّ أنّ هذا الكمّ من العنف الإبادي الذي يهدف إلى إخضاع سكّان غزّة، وفلسطين عموماً، يقصد الدمار بكلّ معانى الكلمة، الجسدي، والمادي، والروحي والنفسي، ودمار أيّ فكرة ممكنة عن المستقبل في هذه البلاد. العنف، في هذه الحالة، قضاء على الحياة وعلى ذاكرة الحياة، وعلى كلّ ما يُفضي إليها. هو كيٌّ ساديٌّ للوعي، وإخضاع للقبول بمن هو "سيّد" ومن هو مأمور، ولا شيء آخر. فعند الحديث عن نصر مطلق، إنما يُعنى بذلك الإخضاع المطلق، فلا سيادة لغير المحتلّ وأدواته القاتلة.
العنف الاستعماري الوحشي أساس البلاء، وهو الذراع العسكرية للرأسمالية التي تحميه بالأسلحة والمراوغات اللغوية والإجرام اللامتناهي. و"إسرائيل" تتمادى في فرض وتطبيع العنف كطريقة حياة على الشعب الفلسطيني والعرب عموماً، فتشوّه الجميع بقبح أفعالها، وتجرّ داعميها في الغرب نحو مزيد من العنف والدمار والتشويه ضدّ البلاد العربية، من لبنان إلى اليمن إلى سورية والعراق، ومن يعلم من سيلحقهم؟ منهجية الإجرام والعنف التي تقوم عليها "إسرائيل" منهجية راسخة وتتفاقم، وبانجرار الغرب وراءها فإنه يرسّخ لمرحلة جديدة من العذاب العربي والمعاناة والألم الكبير في هذه المنطقة المثخنة بالجراح على يد المستعمرين وأدواتهم.
ولا يسلمُ من العنف أولئك الذين يتابعون المذابح والآلام من بعيد. نحن أيضاً ضحايا، ضحايا أنّنا من هناك، ونعرف هناك وأهل هناك، ونعرف أنّهم طيّبون وأنّهم يستحقّون ويحبّون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلاً، وأن ما يحدث لهم لا يجب أن يحدث لأحد. ونريد لهم النجاة، والحياة العادية الرتيبة، بكلّ نعمها وتذبذباتها. نريد لهم الخلاص من الرعب، والخلاص من الخوف من الأسوأ، والخلاص من مشاعر الفقد والعجز. نريد لهم الحياة التي يحنّون إليها ويدعون من أجلها، ويقاومون من أجلها، حياة آمنة وكريمة.
نحن البعيدين لا نسلم من العنف، فعقولنا ترزح تحت وطأة موجات القلق والخوف على أهلنا، ولغتنا تصارع، وأحلامنا معجونة بما نرى من موت وقهر مستمرّين. وسيأخذنا كثير من الوقت والجهد والتأمّل لنتجاوز أنفسنا المصابة بأصداء الجراح والدمار، وأنفسنا التي تحنّ إلى الخلاص من عنف الاستعمار وبشاعته، وترنو إلى السلام حقاً، لأهلنا ولنا.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن
مشاركة الخبر: في الحنين إلى الخلاص من عنف الاستعمار على وسائل التواصل من نيوز فور مي