"المعرض الدولي للكتاب والنشر" بالرباط.. عشرة أيام مكتنزة
كلّ معرض لـ الكتاب، أينما كان ومتى كان، وكيفما كانت الثقافة واللغة التي تحتضنه، هو مناسبة لعدّة فئات للّقاء والتشاور وإعادة تأطير الأسئلة النوعية حول الكتاب، الكتابة، القراءة والترجمة، عبر الندوات واللقاءات والجلسات الخاصة بتقديم الكتب. يُضاف إلى هذا خصوصية ثقافة البلد الذي يستضيف فعاليات المعرض. وفي حالة المغرب مُتعدِّد اللغات والثقافات الممتدّة عبر الحضارات، كان من المُفيد، بل والضروري، النظر في شأن الثقافة الأمازيغية، والثقافة الفرنسية الحاضرة بقوة في البلاد، سواء في الحياة العامة للمغاربة أو في شأن التأليف باللغة الفرنسية.
اكتشاف آفاق ثقافية جديدة
وزير الشباب والثقافة والتواصل محمد المهدي بنسعيد الذي تحدّث إلى "العربي الجديد" عشية الاختتام، يوضح أن "المعرض أصبح ميعاداً دولياً بالنسبة للكتّاب المغاربة والعرب. وكان مناسبة للاحتفاء ثقافياً بالكتاب والقراءة، وفرصة موائمة للمواطنين المغاربة لاكتشاف آفاق ثقافية جديدة. كما شهد تنظيم فعاليات حضرها مئات من الكتاب والمفكرين والشعراء المغاربة والأجانب، وشملت ندوات موضوعاتية ولحظات استرجاعية لفكر وإبداع بعض الرموز الثقافية التي أسست لمسارات فكرية وإبداعية متميزة، بالإضافة إلى تنظيم لقاءات مباشرة بين المبدعين وجمهورهم".
إظهار لوجه البلد المتوسطي بامتداده الأفريقي وتنوّع لغاته
كما حضرت القضايا التي تهمّ المغرب من الجانبين الثقافي والسياسي، مثلما هو الشأن بالنسبة للعلاقات المغربية الإسبانية. حيث قدّم الكاتب المغربي نبيل دريوش كتابه "إسبانيا الآن: تحوّلات المشهد السياسي الإسباني 2008 - 2023"، وهو تحليل للعلاقات المغربية الإسبانية من رحيل الحسن الثاني إلى تنحّي خوان كارلوس. وبجوار التحليل السياسي حضر أيضاً التحليل الاقتصادي بشكل متفاعل، إذ اعتبر المؤلّف، أن الأزمة الاقتصادية والمالية التي عصفت بإسبانيا عام 2008، شكّلت نقطة تحوُّل في تاريخ البلاد، ليس فقط من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية؛ بتزايُد نسبة البطالة بشكل غير مسبوق، وفُقدان مئات الآلاف من مناصب العمل، بل إن هذه الأزمة أخرجت الملايين للاحتجاج في الشوارع الإسبانية، لتتحوّل هذه الاحتجاجات إلى حركة اجتماعية منظّمة ابتداءً من 15 أيار/مايو 2011، مستعرضاً مجمل التحولات السياسية التي أفرزتها الانتخابات التشريعية خلال المرحلة التي تناولها الكتاب.
وفي إطار تفاعلات المغرب كبلد متوسطي، وقّعت الباحثة الاجتماعية المغربية فيروز فوزي، كتابها "الهجرة العربية والمتوسطية إلى كندا" الصادر هذه السنة باللغة الفرنسية. والكتاب هو ثمرة عدّة سنوات من التفكير والتأمّل في هذا الصنف من الهجرات. فهو يوضّح تعقيدات الأسئلة المطروحة بخصوص الاندماج، البحث عن الهوية الذي يستحضر العنف الرمزي لخطابات الدُّونية، والوصم والاستبعاد الجماعي الذي يؤثّر على المُهاجرين العرب المتوسطيِّين وأحفادهم في كيبيك.
حضرت فلسطين عبر الشعر ويوميّات الإبادة في غزة
وقدّمت الباحثة فوزي في هذا الكتاب العِلمي تأمّلاتها في موضوع الهجرة كنمط من الربط بين المادة الأدبية وتمثيل العالَم الاجتماعي. إن إضفاء الطابع الخيالي على عملية الهجرة يشكّل مادّة أصلية للكتاب. هكذا اختارت الباحثة الكُتّاب العرب المتوسطيّين من أصول مُهاجرة الذين يروُون واقع وخيال بلد ما، ويسعون إلى توعية القارئ بالحقائق الاجتماعية من خلال نقل رسائل ضمنية، ومن خلال المعالجة الأدبية للشخصيات المُهاجرة. أمّا المتن الأدبي الذي اعتمدته الباحثة، فيضمّ أعمالاً أدبية لكلّ من: عبلة فرهود من لبنان، وأندري دهّان من مصر، ومجيد بلال من المغرب، ومنى لطيف غطاس من مصر، ونادية غليم من الجزائر، ورشيدة المفضل من المغرب.
مساحةٌ للشعر وفلسطين
ومن ضيوف المعرض الكبار حضر الشاعر والروائي المغربي عبد اللطيف اللَّعبي رفقة زوجته الكاتبة جوسلين اللَّعبي صاحبة رواية "حكاية القرامطة"، التي تُرجمت إلى العربية عام 2022، وتدور أحداثها في فترة تاريخية دموية من تاريخ الدولة العباسية، التي كانت تعتبر كلّ من يُعارضها كافراً، مُهرطقاً مُشرِكاً، مصيرُه الموت بأبشع الطُّرق. حملت جوسلين معها "حكاية القرامطة"، وحمل معها اللّعبي ترجمتَه لمختارات من شعر الشاعر الفلسطيني نجوان درويش إلى اللغة الفرنسية، منحها عنوان "لستَ شاعراً في غرناطة" التي كانت موضوعَ ندوة دعا إليها "المجلس الوطني لحقوق الإنسان" بحضور الشاعر، والذي قدّم أيضاً في اليوم التالي أُمسية شعرية لتوقيع المختارات في فضاء "غاليري نويغا" في قصبة الأوداية. كما كان المعرض فرصة لتقديم التحية إلى غزّة، عن طريق تقديم كتاب "وقتٌ مستقطع للنجاة: يوميّات الحرب في غزّة" للروائي ووزير الثقافة السابق عاطف أبو سيف، وقد قدّمه الكاتب والصحافي معن البياري. وهو كتاب يوميات أبو سيف وشهادته على عدوان الإبادة الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ السابع من أكتوبر، والذي تُرجم إلى لُغات عالميّة عدّة، منها الإنكليزية التي صدر فيها بعنوان "لا تلتفت يساراً: يوميّات الإبادة في غزّة".
ولأن المعرض هو دعوة إلى القراءة والتفكير والتأليف، فقد حضر الكاتب الأرجنتيني رمز القراءة والمكتبات خورخي لويس بورخيس، بواسطة ترجمة أعماله القصصية إلى اللغة العربية من طرف المترجم المغربي مزوار الإدريسي، واحتضن تقديم الكتاب رواق "جامعة عبد الملك السعدي" بحضور المترجم وسفير الأرجنتين راوُولْ إغْناثْيُو غْواسْطاڤِينُو، الذي اعترف بأنه قارئ نهِم لكلّ أعمال بورخيس، بل إنه اعترف بأنه قد شرُفَ في صِغره بالجلوس إلى بورخيس في محاضرتيْن على مسافة قريبة جداً، وأنه متأكِّد من أنّ لا أحد في الحاضرين قد حظي بهذه الفرصة التي لن تُمحَى من ذاكرته، وركَّز على البُعد الكوني لأدب بورخيس، وأنه سعيدٌ باهْتمام العالَم العربي بهذا الأديب العالمي، وفي المغرب تحديداً، نظراً للعلاقة الوطيدة لأدب بورخيس بالأدب العربي وبالمغرب تحديداً.
احتفاءٌ خاص بالأدب الأفريقي
وفي إطار الاحتفاء بالأدب الأفريقي، استضافت قاعة الدورة الحالية من المعرض الكاتبة جونيفر ريشار، الفائزة بجائزة "إيفوار" للأدب الأفريقي المكتوب باللغة الفرنسية سنة 2023، عن روايتها "مملكتُنا ليست من هذا العالَم". وهي كاتبة باللغة الفرنسية من جزيرة "غوادلوبي" (إحدى جُزر الكاريبي) وتُقيم في برلين، ولها عشرات الروايات التي اكتسبت سمعة أفريقية وعالمية، منها: "إنه لكَ هذا البلد الجميل"، و"الشيطان يتكلّم كلّ اللغات".
ولأن الرقميات أصبحت هاجساً عالمياً، فقد اختارت الدورة عَقد ندوات للتفكير في هذه القضيّة. إذ احتضنت قاعة "أفق" ندوة في موضوع "الذكاء الاصطناعي في زمن التحوّلات الرقمية"، باللغة الفرنسية، شارك فيها بول سانتيلي، وإدريس علوي المدغري، وفيليب كليرك، وتسيير إدريس الكراوي. وانطلقت الندوة من كون الثقافة أصبحت، بل وكانت دوماً، عنصراً أساسياً في رأس المال غير المادّي، وقضيّة رئيسية في قوة وجاذبية وتأثير الأمم. ونتيجة لذلك، أصبحت الآن موضع إعادة نظر في دورها وأهدافها في وضع سياسات عامّة جديدة.
أفرد المعرض مساحة لفئة أُخرى لا تظهر عادةً في مثل هذه المناسبات؛ إنها فئة الرسّامين، أليس أغلبهم يصمّم الأغلفة واللوحات الداخلية للكتاب؟ ثم فئة المصوّرين؛ ألا نجدها حاضرة في الصور الفوتوغرافية التي تتضمّنها بعض الكتب والكاتالوغات؟ وأخيراً، لا يُمكن أن نغفل فئة السينمائيّين، لأنهم حضروا كممثّلين ومخرجين ومؤلّفين للسيناريوهات، حيث قدّمت بضع ندوات أعمال نقّاد سينمائيّين، فجاؤوا للإنصات إلى ما يُمكن أن يقوله النقد/ الكتابة عمّا قاموا به من أعمال حين كانوا يُؤدّون أدوارهم خلف الكاميرات.
هذه منتخبات من فعاليات "المعرض الدولي للنشر والكتاب" في الرباط، الذي أُسدِل ستارُه، يوم أمس الأحد التاسع عشر من أيار/ مايو الجاري. وكما يلاحظ، فقد مسّت جلّ الاهتمامات والانشغالات لقارئ اليوم بكلّ اللغات، والمتطلّع لمعرفة الثقافات الأخرى، إلى جانب معرفة ثقافته الوطنية.
مشاركة الخبر: "المعرض الدولي للكتاب والنشر" بالرباط.. عشرة أيام مكتنزة على وسائل التواصل من نيوز فور مي