"أنورا": لا جديد سينمائياً رغم أهمية الحكاية
لم يكن "أنورا"، للأميركي شون بيكر، الفائز بـ"السعفة الذهبية" للدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، من الأفلام الأولى في ترشيحات أفلام تتصدّر الفوز بها. لذا، يمكن القول إنّ بيكر انتزعها انتزاعاً. لم تذهب الجائزة إليه تحديداً، بقدر منحها لعوالمه، وتناوله الجريء مواضيعه وطبيعة أفلامه. فـ"أنورا" يعود إلى العوالم المعهودة لمخرجه، وفيها اهتمام بشخصيات في الحضيض، خاصة النساء، لا يلتفت إليها أحدٌ إلا عند الحاجة إليها.
لم يخشَ بيكر تكرار ارتياده عوالم عاملين وعاملات في التجارة الجنسية، وكشف القاع المُظلم للمجتمع الأميركي إزاء هذه المهنة، بعد مقاربة شديدة المرارة والقسوة في فيلمه الأقوى "مشروع فلوريدا" (2017). والعودة إلى العوالم نفسها، مع توسّع وخلطة مُغايرة، قبل عامين، مُقدّماً في "الصاروخ الأحمر" (2021) شخصية بطل أفلام جنسية مشهور ومعتزل، في التفاتة غير مسبوقة كثيراً إلى منسيين ومجهولين ومنبوذين في هذه التجارة، التي لا ترحم أهلها. ورغم التناول الحيوي للمواضيع والأحداث، والجو الإنساني، والحس الكوميدي، يتركنا بيكر دائماً مع كآبةٍ تلفّنا، بعد معاينة هؤلاء الأشخاص وأحوالهم ومعيشتهم، خاصة أنّه يصعب نسيانهم.
لا تختلف أنورا كثيراً عن موني وهيلي، بطلتي "مشروع فلوريدا"، أو ميكي، بطل البورنو المعتزل في "الصاروخ الأحمر". إنّها من الطينة نفسها، تجمعها بالآخرين مشتركات عدّة، وإنْ اختلفت الأسماء والأشكال والأعمار والظروف المحيطة والملابسات والفواجع.
أنورا (ميكي ماديسون) شابة شبه جميلة وعادية. هذا مكمن جاذبيتها وإشعاعها وإغوائها. تُحبّ أنْ تُدعى آني، نظراً إلى كراهيتها اسمها، الذي يُذكِّرُها بأصولها الأوزباكية. إنّها فتاة بسيطة للغاية، من بروكلين، تبلغ 23 عاماً. تذكر أنّ لها عائلة مُقيمة في ولاية بعيدة، لا تعرف عنها الكثير. تتشارك مع صديقة شقّة مُستأجرة. رغم تمرّسها في التعرّي والمُرافقة والدعارة (لا يُعرف الكثير عن خلفيتها المهنية، ومتى بدأت، وملابسات البداية)، يلفت ذكاؤها الانتباه. شخصيتها القوية والمُميّزة واضحة بين أقرانها. هذا يثير تساؤلات، فمع تطور الأحداث، تظهر كفتاة لها طموح رومانسي ساذج كبير، برغباتها وأحلامها وأوهامها، وبهذا لا تختلف عن أي فتاة أخرى عادية، بلا تجربة.
آني وحدها تتحدّث بعض اللغة الروسية، التي تعلّمتها في منزل جدّتها. لهذا، يطلب منها صاحب الملهى الليلي، الذي تعمل فيه، الجلوس مع شباب روس يُريدون تمضية وقت ممتع. تلتقي شاباً أهوج متهوّراً، وغير مسؤول وجبان: إيفان، أو فانيا زخاروف (مارك أيدلشتاين)، الذي يبدو شديد الاختلاف عن الزبائن الآخرين، ومعظمهم له عمر يكفي ليكون والدها، بينما ينضح فانيا حيوية وفحولة، ويتّسم ببراءة ولطف وكرم. يندمج الشابان معاً في تلك الليلة، ثم يزداد التقارب أكثر، خاصة عندما يدعوها إلى حفلة مغلقة في بيته. ثم يطلب منها مرافقته حصرياً، والبقاء معه أسبوعاً مُقابل مبلغ كبير. تدريجياً، تكتشف آني الثراء الفاحش لهذا المُراهق الروسي المُدلّل وشبه المجنون، سليل أسرة لا تعرف مقدار ثروتها، فينقلب العالم الهادئ شبه المُستقر المقتنعة به، رغم كلّ العقبات والمُنغصات.
في لحظةٍ من لحظات جنونه وطيشه، ومن دون إدراك العواقب، يصطحبها مع أصدقاء في الطائرة الخاصة لأسرته، للهو في أندية قمار لاس فيغاس، وليتزوّجها رسمياً فيحصل على جواز سفر أميركي، ولا يعود إلى روسيا للعمل مع والده، والفرار من سيطرة والدته المُتحكمة العصبية. يُعقد قرانهما ويبدأ اندماجهما معاً، رغم اختلاف العقلية والاهتمامات والسلوك. يُنشر الخبر، فتجنّ الأسرة.
تبدأ الإثارة مع تدخّل توروس (كارين كاراجوليان)، الأب الروحي لإيفان، والخادم المُطيع للأسرة، وراعي مصالحها في أميركا. رغبته الوحيدة المُعلنة إلغاء الزواج، مهما كانت التكلفة، وإعادة "المعتوه" إلى أسرته، فيُرسل الثنائي جارنيك (فاش توفميسان) وإيغور (يورا بوريسوف) لإنجاز مهمة، تصبح عبثية خرقاء للسيد كما في رائعة فرانز كافكا "المُحاكمة"، بصورة سينمائية معاصرة.
هنا، يصنع شون بيكر الطاقة العفوية نفسها المعهودة في أفلامه، ما يجعل بقية "أنورا" سريعة وغير متوقّعة، تعجّ بمفارقات ومواقف ساخرة وضحك شديد، واستظراف زائد عن حدّه أحياناً، مع مبالغة قليلة، وذلك أثناء ملاحقة فانيا الهارب والمذعور عند انكشاف أمره، وبعد أنْ عَلِمَ من توروس أنّ والديه قادمان إلى أميركا. فجأة، يُحكم الخناق على آني، الواقعة في قبضتهم القاسية، وحيدة من دون سند أو قدرة على الفرار، حتى العثور على الوغد عديم المسؤولية، وتطليقها منه عنوة، من دون الاستماع إلى "مهاتراتها" عن أنّ الزواج حقيقي، وليس مُراهقة أو طيشاً أو نزوة، وأنّها راغبة فعلياً في تكوين أسرة معه.
رغم كلّ ما يتعلّق بالحبكة البسيطة، المعتادة وواضحة الخيوط والشخصيات والأحداث المتوقّعة، لا يوجد صراعٌ بين خير وشرّ، أو نزاع بين طرفين، يرغب أحدهما في أنْ يؤذي الآخر. هناك فقط سوء فهم وتصرّف، ومحاولة قاسية لتصحيح أوضاع تعقّدت. صحيحٌ أنّ هناك تعاطفاً مع آني، ومع رغبتها الصادقة الحالمة، والتمسّك بأمل خيالي في أنْ يكون الزواج حقيقياً، وإيمانها بحبّ حقيقي، وإنْ بدا أنّ إيفان لا يستحقه. لكنْ، لا يمكن تجاهل وإنكار انزعاج أفراد عائلته وأصدقائه، وقلقهم إزاء ما فعله. كما أنّ النظرة المحايدة تُقرّ بحتمية الفشل. لذا، يكون إصرار الأقوى أمضى بكثير، من دون اكتراث بشيء، ما يؤدّي إلى نهاية درامية محزنة ومؤلمة.
رغم تمرّسها بالحياة، ومعرفتها الأكيدة قوانين مهنتها، وضرورة عدم تجاوزها وانتهاكها، ورغم معرفتها بالرجال وعوالمهم، كانت آني عمياء كلّياً بخصوص اقترابها من فانيا، واستكشافها طبيعته، رغم وضوح شخصيته، فكان احتراقها سريعاً بسبب تصرّفها الحالم. لا علاقة للأمر بشراهتها للمال، أو بنزوة رومانسية، أو بافتتان بحياةِ جاهٍ لم تحلم بعيشها، أو باستغلال مادي. مع أنّها تحبّ المال وتسعى إلى تلك الحياة، فإنّ دافعَها الزواجُ وتكوين أسرة حقيقية.
نظرة إلى "أنورا" بمعزل عن أيّ شيء، تكشف أنّه بسيط، بل سطحي، وأنّه مشوّق ومضحك ومثير ومسَلّ. فيه عمق قليل يتعلّق بالشخصيات، وجِدّة في المواقف. لكنْ، بعيداً عن عوالم شون بيكر وسياقات أفلامه، والفنّيات والجماليات والابتكارات السينمائية فيها، وبعض هذا ظاهرٌ في "أنورا"؛ وبعيداً عن فوزه بسعفة "كانّ"، يصعب جداً القول إنّ فيه جديداً أو مفارقة سينمائية. مع أنّ الديكور والتصوير يستحقّان تأملاً كثيراً.
أمّا النظرة إليه في سياق إصرار بيكر على رصد عالم مجهول وغير مستكشف كثيراً، وصدقه في التأكيد على أنّ العمل بالجنس عملٌ حقيقي، رغم عدم اعتراف المجتمع به، وكيف أنّه باقترابه المُتعمَّد من عوالم هؤلاء البشر، يحاول تقريبنا منهم إنسانياً، فنحبّهم ربما، أو أقلّه نفهمهم، ونتعاطف معهم؛ يظلّ الفيلم في سياق الأعمال الأخرى لبيكر، أقلّ قليلاً من أفلام سابقة، ولا يصمد كثيراً أمام "مشروع فلوريدا".
مشاركة الخبر: "أنورا": لا جديد سينمائياً رغم أهمية الحكاية على وسائل التواصل من نيوز فور مي