الطَّبل.. ذاكرة وذكريات
إلى: محاري وقيد الكتابة: المهندس عدنان شمسان العريقي
الطّبَل (طَبَل كما وردت في ذاكرة المعافر*) هو الشخص الذي يحمل الرسائل بين القرى والمدن أو الذي يحمل الرسائل والصدارات والطرود المرسلة بين القرى والمدن).
للطبل نظائر أخرى حسب المناطق فما يقال في لهجة صدان (طََبل) يقابله في منطقة أخرى (جَمّال) الذي تغنى به الفنان عوض أحمد بـ:
يا جمال ليتك بتتجمل
توصل لي إلى محبوب
قلبي رسالةْ.
(تتجمل من الجمالة وهي فعل المعروف لشخص معين).
الأغراض التي كانت ترسل مع الرسالة (الجواب) تسمى في مناطق (بقشة= كلمه تركية تعني الثياب) وهي عبارة عن كيس قطني يوضع بداخله الثياب وغيرها من متطلبات الأسرة وكانت ترسل للقرى من المدن (عدن، صنعاء، تعز، الحديدة).
وتسمى (التسبور) في مناطق أخرى وقد تطرق الفتيح لهذه المفردة بقوله:
جواب حبيبي مع التسبور أتاني
وردي فتش بالوجن.
هذه البقشة أو التسبور المصاحبة للرسالة.. كانت تستغرق شهرًا للوصول من المدينة إلى القرية.
أشتهر الحاج عابد المقرمي الذي اشتغل في مهنة (الطبالة) بين قرى المقارمة والزكيرة وما جاورهما) وعدن.
وكان يوزع هذه الصدارات ابنه عبدالله فوق حماره الأبيض المميز.. الدقيق والرز والجاز وغيرها كانت تصل إلينا من والدي المغترب في عدن وهي كانت أهم الأغراض في تلك الفترة.
وثقت الأغاني اليمنية الكثير من هذه المراسلات بين القرى والمدن، رفضا لهذه الصدارات مقابل عودة الحبيب من غربته حتى ولو زيارة.
مشتيش مكتوبك ولا الصداره
اشتيك تعود حتى ولو زياره
أو شوقًا ولهفة لمعرفة أخبار الحبيب الغائب:
غبش اقوم قبل الطيور اسائل
أين الطبل لو لي معه رسائل
إلى جانب الحاج عابد المقرمي كان هناك أحمد عبدالله العزعزي من حجفات ينقل الرسائل من عدن إلى القرى، ولكنه يكتفي بالأشياء الصغيرة كالثياب وبعض اللوازم الضرورية.
أما بالنسبة إلى (الاطبال) الذين كانوا ينقلون الرسائل من صنعاء إلى القرى فمن الزكيرة هو السيهار، ومحمد علوان سمج الذي كان أيضا ينقل الرسائل من وإلى المغتربين في حجة.
مع تزايد المغتربين اليمنين في السعودية، وبدء التحويلات المالية، كان (عبد الرحمن الناظر) في التربة (الشمايتين) هو الوكيل الحصري لهذه التحويلات من منتصف السبعينيات.
أدت النهضة التي شهدتها المنطقة وخصوصًا بعد شق الطرقات إلى تواجد السيارات في كل قرية وبدأ بعض هؤلاء الذين يمتلكون السيارات بامتهان (الطبالةْ) بواسطة السيارات.
أدت الحاجة إلى نقل تجربة (الطبل) باستخدام السيارات وتعدت هذه المهنة الحدود الجغرافية الداخلية لليمن إلى مناطق السعودية، ممن كانوا مغتربين فيها، حيث بدأ بعضهم يعمل (طَبَلا) لنقل الرسائل من السعودية إلى اليمن بمختلف مناطقها.
مهنة (الطبالة) من السعودية كانت بمثابة تقسيم تم التعارف عليه بتخصيص منطقة من مناطق السعودية لطَبَل معين، وممن كان الطبل مغتربًا فيها، ممن اتذكرهم من هؤلاء، الزعزعي، عزالدين الاصبحي، أحمد عبدالقادر الاصبحي، محمد فارع الشوكاني، أحمد سلطان العزعزي، والطويل، ومنصور سعيد علوان، وأضاف المهندس عدنان شمسان عبدالقوي الساحلي (من وعلان الأعروق).
مازالت مهنة هذه الطبالة متوارثة إلى اليوم وبالذات في منطقة الحافة (عزاعز) ورثها الأبناء والأحفاد.
إضافة إلى الرسائل الكتابية، كانت الكثير من الاغراض التي تُنقل من السعودية تتركز في البطانيات، والملابس، الإرغانات والثياب وبعض مستلزمات البيت، حتى أسطوانات الغاز، اضافة إلى بعض الأشياء الثقيلة التي تنقل من السعودية مثل اطارات السيارات المتوسطة الكبيرة، وبعض المعدات.
في منطقة العزاعز كان الحاج ياسين مقريشه هو من يقوم بنقل هذه الأغراض الثقيلة، التي رفض الكثير من (الاطبال) أخذها كما قال هو في سخرية بالغة في واحدة من مقابلتنا معه.
بعد أن تكبد الحاج ياسين مقريشه خسائر هذه (الطبالة) عاد إلى مسقط رأسه وعمل في أكثر من عمل، متنقلًا بين صنعاء والقرية، كما عمل في مجال العمل التعاوني والصلح الاجتماعي. قام بتنفيذ العديد من المشاريع التعاونية على حسابه الخاص بعد أن تيسرت أحواله المالية، وبمساعدة (أبنائه المغتربين في السعودية).
وهكذا، مع تزايد وسائل المواصلات وتعبيد الكثير من الطرق إلى القرى، اشتغل الكثير من أصحاب الباصات (كأطبال) بين القرى والمدن اليمنية، واصبحت هذه (الطبالة) يومية من وإلى تعز للقرى القريبة منها، واسبوعية أو نصف أسبوعية إلى المدن البعيدة.
لم تقتصر حركات الباصات من وإلى القرى بحركتها اليومية، على الرسائل والصدارات من المدن إلى القرى (تعز، صنعاء، الحديدة، وإلى عدن) بل كانت متبادلة فمن القرى يأتي (الحقين، اللحوح، والكدر- خبز الذرة – وكذلك الحبوب والجهيش وغيرها).
أشهر (الاطبال) في محيط قرى (الزكيرة والأصابح) هو المرحوم أحمد حسن عون، الذي كان رحمة الله عليه طيبًا ومثالًا للالتزام اليومي في الذهاب والإياب من القرى إلى تعز. وكانت سيارة أحمد حسن والباص الذي صاحبه حتى وفاته، علمًا من أعلام طريق تعز التربة.
أما من أشهر (أطبال) القرى إلى صنعاء فقد كان أحمد سلطان العزعزي (رحمة الله عليه) مؤسس هذه الطبالة إلى صنعاء وقد توارثها ابنائه عنه بعد وفاته.. ولكن اسم أحمد سلطان، مازال هو المهيمن، فلا يذكر اسم أبنائه الذين توارثوا هذه المهنة إلا نادرًا.
بدخول التحويلات المالية، عبر محلات الصرافة، تراجعت الكثير من الصدارات المالية عبر (الاطبال) ولم تتراجع صدارات الأغراض الأخرى.
الملفت للنظر فقد أصبح أاطبال الباصات) يقومون بنقل المسافرين مع صداراتهم إلى المدن ما أدى إلى تراجع حركة الفرزات، وهذه أثرت كثيرًا في مداخيل سائقي هذه الفرزات. أفتتح أكثر من مكتب (للطبالة) وصارت هناك ملحقات في كل فرزة لنقل الرسائل السريعة إلى كل مركز المديريات اليمنية.
تكنولوجيا الاتصالات ومنصات التواصل الإجتماعي أفقدن الرسائل الكتابية نكهتها، ومذاقاتها الخاصة، والانتظار المتلهف لها.
أصبح الاتصال صوت وصورة في متناول اليد والأذن. ومازال (الطبل) يمارس عمله اليومي من وإلى المدن القريبة، والأسبوعي أو نصف الأسبوعي للمدن البعيدة أكثر من المعتاد. ومازال هناك أطبال يعملون بين القرى اليمنية والسعودية.
الجوابات ذاكرة وذكرياتبعد عودتي من عدن إلى القرية وبقائي فيها للدراسة، كنت شاهدًا وقارئًا (للرسائل= الجوابات) التي تأتي اليها بل وكنت كاتبًا بامتياز للرد على تلك الرسائل، وكنت محظوظًا بالحصول على ثلاث أو أربع بيضات كهدايا مع كل رسالة أقرأها وأرد عليها.
الدخول في تفاصيل ردود الأفعال لمن تصل إليها الرسالة، كانت ملفتة لنظري حين قراءتها، وماتزال بعض آثارها عالقة في ذهني (كذاكرة وذكريات) وهي تغير ملامح الوجوه التي كنت أقرأ لها تلك الرسائل، بين كلمة وأخرى، وكأن الفترة الزمنية (الشهرية) التي استغرقتها الرسالة تتلاشى أمام تعابير هذه أو تلك حتى كأن الجواب يبث تعابير الغائب آنيًا لحظات اللهفة تلك، واشراقة البسمات، ومدامع الاشتياق وفرحة اللقاء للغائب، صارت من أجمل ذكريات نساء القرى التي عشن حلاوة نلك الفترة الزمنية.
أما لهفة اليوم فتتلاشى قبل بدء ضغط مفتاح استقبال الرسائل الصوتية أو القصيرة، ومع انطفاء مكالمة الهاتف، بل وتأتي معظمها مختلطة بآثار النوم. بكلمات بسيطة صار التواصل اليومي عبر منصات التواصل الاجتماعي والهاتف الخلوي مجردًا من كل أحاسيسه العاطفية.
طرفة:أصيب أحد المغتربين في باجل بالحمى الشديدة، وحين تعافى أرسل لزوجته بقشةْ ورسالة كتب فيها
صدر إليك صدر خمسة ريال مصابط (ورقة أبو خمسة ريال)، ومقرمة ومَصر، واللي شتغني
شربت من باجل شربت منه ششرب الدّم حقه.
تنويه:
في اتصال هاتفي مع الباحث (علي عامر) قال بأن (طابال) وهي آلهة سومرية كانت تنقل الرسائل والهدايا بين آلهات في الألف الرابع قبل الميلاد.
ذاكرة المعافر: عبدالله محمد حزام المقرمي تعز1 يوليو 24
The post الطَّبل.. ذاكرة وذكريات appeared first on بيس هورايزونس.
مشاركة الخبر: الطَّبل.. ذاكرة وذكريات على وسائل التواصل من نيوز فور مي