الجيل الخاص جداً
رحم الله الأمير بدر بن عبدالمحسن؛ حيث لا نزال وسنستمر نقلب أوراقه علّنا نتجاوز فاجعة فقده ببعض شعره ومشاعره الخالدة؛ إذ قرأت له نصاً عميقاً يقول فيه: "جيلي جيل خاص جداً لمروره بتغيرات سريعة جداً، ولا أعتقد أن جيلاً في هذه المنطقة مر أو سيمر بها.."؛ لأنه، وكما كثير من مجايليه، يقول: "ولدت في مرحلة انتقالية.. وإن كنت ولدت في بيتٍ من الطين، ففي التاسعة من عمري كنت أدرس في الإسكندرية.. وفي الثامنة عشرة كنت في سان فرانسيسكو".
هذا التلخيص يعكس بعمق التحول الهائل الذي شهده جيل كامل من أبناء المملكة، أولئك الذين شهدوا في حياتهم تحولات حضارية كبرى لا يصدقها إلا من عايشها وتغيرت حياته من الفقر والتعب إلى الرفاهية والوفرة، ذاك الجيل الشاهد على التحول العظيم الذي استغرق زمناً طويلاً في كل بلدان العالم إلا في منطقتنا، الجيل الذي انتقل من ركوب الجمال كوسيلة سفر إلى ركوب الطائرات يجوب قارات العالم.
إنه الجيل الذي لن يستطيع مهما اجتهد في الوصف أن يصف عظم التحول ومشاعر الصدمة بين ما كانوا عليه وما أصبحوا فيه، الجيل نفسه الذي عاش بيئة قاسية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، تتطلب منهم القوة والصبر والمثابرة، ولا مكان فيها للدعة والتنعم والعطالة؛ إذ كانوا يقطعون المسافات الشاسعة بين المدن مشياً على الأقدام، يستغرقون الأيام والشهور للوصول إلى وجهاتهم، يواجهون الصحراء القاحلة، ويكافحون للبقاء على قيد الحياة في ظروف صعبة للغاية.
أتذكر أني في التسعينات سافرت مع جدي - رحمه الله - من بريدة إلى الرياض صباح يوم جمعة، تجاوزنا نفود "الثويرات" في دقائق، وهو يتذكر كيف كانوا يرونه كبحر لا يمكن قطعه بسهولة، وكيف اضطروا ذات مرة أن ينوخوا ركائبهم حول "الحسي" القريبة من الرياض، استعداداً لدخول منطقة المربع في اليوم التالي، ومقارنته بتعجب بتمكننا من اللحاق بصلاة الجمعة في الرياض.
هذا التحول الحضاري الذي شهده ذلك الجيل لم يكن سهلاً عليهم استيعابه، مرحلة انتقالية مذهلة، فمن رحلات الصحراء الشاقة، إلى ركوب السيارات والطائرات، ومن بيوت الشعر والطين إلى ناطحات السحاب. لقد عاصروا تطورات تكنولوجية ومعمارية لم يكن بإمكانهم حتى تخيل حدوثها في حياتهم.
هذا الجيل هو بالفعل جيل خاص جداً، لأنه عاصر مرحلة مهمة من معجزة كانوا فيها شهوداً على التحول الكبير من البداوة إلى الحضارة، ليس في الجانب المادي فقط بل ثقافياً واجتماعياً شاملاً، تغيرت خلاله الكثير من المسلمات والمفاهيم والعادات والتقاليد.
وأخشى أننا من المقصرين تجاه هذه التجارب العميقة والحياة الزاخرة بالأحداث، مقصرين في توثيق هذه التحولات، بوصفها ضرورة لحفظ الهوية الوطنية ونقلها للأجيال القادمة؛ فنحن بحاجة إلى مبادرات أكثر لتوثيق تجارب الآباء والأجداد، كتب، أفلام وثائقية، وحتى توثيق روايات البقية الباقية بيننا منهم، يجب أن نحفظ قصصهم، نروي مغامراتهم، ونبرز تحولاتهم، إن لم نفعل ذلك، فسوف نخسر جزءاً مهماً من تاريخنا، وسيبقى الجيل القادم بدون معرفة حقيقية بالجذور التي نشأ منها.
مشاركة الخبر: الجيل الخاص جداً على وسائل التواصل من نيوز فور مي