فيلمان مصريان: الشخصية الحقيقية أهمّ من الوثائقيّ
مشتركٌ أساسيّ بين فيلمين وثائقيين مصريين: إعادة إظهار شخصيتين مصريتين، لكلّ منهما حضورٌ في ثقافة واجتماع وسفر وسلوك، في لحظتين تاريخيتين، تختلف إحداهما عن الأخرى، رغم أنّ مشتركاً آخر يجمعهما: "ثورة الضباط الأحرار" (23 يوليو/تموز 1952)، أقلّه بتأثيراتها المختلفة عليهما.
"رسائل الشيخ دْراز" (2024) لماجي مرجان يروي سيرة الدكتور محمد عبدالله دْراز (1894 ـ 1958)، أحد أبرز علماء الأزهر؛ و"جولة ميم المملّة" (2023) لهند بكر يحثّ الكاتب المعتزل طويلاً محمد حافظ رجب (1935 ـ 2021) على استعادة ماضٍ وذكريات، ويحاول إعادته إلى العالم، بأنْ يجلب إليه حكاياتٍ وأسئلة وأفراداً، وأحد هؤلاء متأثّر به للغاية، إلى حدّ أنّه، هو أيضاً، سيعتزل الكتابة رغم صغر سِنّه.
لعالِم الأزهر تأثيرٌ فاعلٌ في تربية عائلة (زوجة وعشرة أفراد) بلغة عصرٍ فيه مزيج أكثر من ثقافة ونمط تفكير، والنتيجة ظاهرةٌ في سلوكٍ يومي لأفراد العائلة (أبناء وبنات وأحفاد تحديداً)، يقول بإيمان ديني من دون انغلاق وتشدّد. وللكاتب تأثيرٌ في إشاعةِ أسلوب كتابة غير متطابق مع الحاصل حينها، ما يعتبره نقّاد لغة تجديدية في بنية النص القصصي وعوالمه.
للشخصيتين سحرٌ، يظهر مع الشيخ دْراز في تأثيراته غير المحصورة في عائلةٍ، فهناك طلبة وباحثون وباحثات يجدون في كتبٍ له ما يُعين على مزيدٍ من فهم وانفتاح وتشكيل وعي ثقافي ومعرفي للنصوص الدينية. أمّا محمد حافظ رجب، فيصنع سحره من سخريته وانفضاضه عن الجميع، واختياره عزلة طويلة في منزل له في الإسكندرية. والسخرية أساسية، إنْ تكن في إجابات عن أسئلة هند بكر، ومعظم الإجابات غير مُكتمِل (وهذا ممتعٌ ومُثير لحشريةٍ لن تحصل على مُرادها)، أو في نظرةٍ وابتسامة ـ ضحكة، وهذه كلّها تحريضٌ إضافي على محاولة فهم عالمه، وهذا صعبٌ.
يتساوى الفيلمان في أنّهما شهادتان بصريتان عن شخصيتين فاعلتين في بيئة واجتماع وثقافة، مع أنّ الشهادة الأولى يرويها أبناء وبنات وأحفاد وحفيدات، وبعض الأخيرين لهم ولهنّ شبّان وصبايا، يقولون تأثّرهم به عبر ما يقوله أهلٌ وأقارب؛ بينما الشهادة الثانية تصنعها الشخصية نفسها، بما تمتلكه من حضور وذاكرة وقناعاتٍ. رواية أفرادٍ من سلالة الشيخ دْراز غير متشابهة ورواية صاحب الرواية حكايته وعيشه وأحواله وتفكيره ومشاعره، مع أنّ محمد حافظ رجب مُقلِّ للغاية في هذا كلّه، وسبب موافقته أصلاً على تصوير فيلمٍ عنه يكاد يشبه غموضاً فيه يُشارك في صُنع سحر شخصيته.
لكنّ الشهادتين هاتين غير متساويتين سينمائياً، رغم تصنيفهما في خانة "الفيلم الوثائقي". فـ"رسائل الشيخ دْراز" أقرب إلى تحقيق تلفزيوني عن شخصيةٍ لها حضورٌ في أوساطٍ علمية ومعرفية ودينية، سيكتشفها البعض، وسيُعيد اكتشافها بعضٌ آخر. بينما "جولة ميم المملّة" (مفردة "المملّة" تقديمٌ جماليّ مبطّن لمناخٍ عام يطغى في سرد حكاية الكاتب) يميل أكثر إلى توثيق بصريّ، مكتفياً بالشخصية نفسها، بدلاً من "جولة" على معارف يحكون عنه، ستكون (الجولة هذه) "مملّة"، بالمعنى السلبي لهذه المفردة ولذاك الشعور، كالحاصل في أفلامٍ تسجيلية كثيرة.
أهمية فيلم بكر، إلى كونه انعكاساً لتاريخ ومسائل وتفاصيل، خاصة وعامة، تظهر في اكتفاءٍ تام بالشخصية من دون غيرها، مع أنّ الابنة تمرّ أمام الكاميرا (تصوير أحمد مجدي مرسي وهند بكر ومحمد الحديدي)، وبعضٌ قليلٌ للغاية من أفرادٍ، يتحدّثون إليه بدلاً من كلامٍ لهم عنه.
كلّ شخصية تستحقّ معاينة معرفية أعمق وأكبر. لكنّ الفيلمين، رغم تفاوتٍ بصري وجمالي وفني بينهما، عاديان للغاية، إلى درجةٍ تسمح بالقول إنّ الشخصيتين أهمّ بكثير منهما.
مشاركة الخبر: فيلمان مصريان: الشخصية الحقيقية أهمّ من الوثائقيّ على وسائل التواصل من نيوز فور مي