مفكرة المترجم: مع خالد قطب
تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "هذه الإبادة هي جزء من برنامج استعماري يوظِّفُ خطابًا ممنهجًا بهدف طمس هويّة غزّة"، يقول الأكاديمي والمترجم المصري في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- على الرغم من القوّة العسكريّة التكنولوجيّة التي يمتلكها المستَعمِر الغاشم والتي يواجه بها غزّة وأهلها، إلّا أن خوفًا هستيريًّا يتملّكه دومًا من تصميم المقاومة هناك على استعادة هويّتها المسلوبة. أرى بعين البصيرة إلى ما حدث في السابع من أكتوبر 2023 على أنّه منعطفٌ مهم في تاريخ المقاومة الفلسطينيّة. فهذه الإبادة هي جزء من برنامج استعماري يوظِّفُ خطابًا ممنهجًا بهدف طمس هويّة غزّة التي أصبحت تمثّل رمزًا عالميًّا للمقاومة وتحديًا لكل أشكال الاستعمار الوحشي. كما أنّها تعيد تاريخ الشعب الفلسطيني وذاكرته في المقاومة، والتي حاول المستَعمِر تزويرها وتشويهها. أرى أنَّ مقاومة المُحتَل الغاشم في غزّة اليوم هي بمثابة للعالم أجمع أنَّ المركزيّة الغربيّة أصبحت وهمًا، فأعادت الهويّة الفلسطينيّة والعربيّة التي سُلبت منها.
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
- بدأت حكايتي مع الترجمة عندما كنت طالبًا في السنة الأولى في قسم الفلسفة بكلية الآداب في "جامعة القاهرة". كنت ألجأ إلى ترجمة نصوصٍ من مراجعَ كُتبت باللغة الإنكليزيّة لكي تساعدني في دراستي الجامعيّة. وقد استمرت هذه العادة حتى الآن، ولا سيّما عندما أعدُّ محاضراتي الجامعيّة لطلابي. ولكن أوّل ترجمة كاملة لنص مهم كانت لكتاب عالم الفيزياء الألماني فيرنر هايزنبرج بعنوان "الفيزياء والفلسفة: ثورة في العلم الحديث"، الصادر عن "المركز القومي للترجمة" عام 2014 في القاهرة. فقد سعدتُ جدًّا بترجمتي لهذا الكتاب المهم؛ لأنَّني تعلّمت منه دروسًا معرفيّةً عدّة، منها: أنَّ المعرفة العلمية الناتجة عن العلوم وسيلة للتفاهم والتواصل بين الشعوب. وأن المعرفة العلميّة لها طابعها العالمي كونها قادرة على حل المشكلات التي تواجه الإنسان، على اختلاف لغته، وجنسه، ومعتقده الديني.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
- تُعد كتابات الفيلسوف الكاميروني إشيل مبيمبي، فيلسوف ما بعد الاستعمار، في غاية الأهمية كونها تقارب "الزنوجة" بوصفها هوية لأفريقيا ومصدر فخر لها. إضافة إلى معالجته لمفاهيم العنصريّة والعداوة والوحشية، بوصفها ممارسات للنظم الاستعماريّة في أفريقيا، ولهذا عَكفتُ على ترجمة كتبه إلى اللغة العربية، وقد تواصلت معه وكان سعيدًا بهذا أيما سعادة. آخر الترجمات التي نشرتها "دار الروافد الثقافية – ناشرون" هو كتاب "الخروج من الليل المظلم: مقالات في نزع الاستعمار من إفريقيا" (2024)، وقد ترجمت فيه مصطلح "Decolonization"؛ الذي يستخدمه مبيمبي كثيرًا في كتاباته بــ "نزع الاستعمار"، لما في هذه الترجمة من دلالة على حضور الوعي والإرادة في التخلّص من الاستعمار المادي والذهني معًا. وحاليًّا، أعكف على ترجمة كتاب إشيل مبيمبي "المجتمع الأرضي"؛ وهو كتاب عميق في أفكاره وطروحاته الفلسفية.
تعاني الترجمة في واقعنا العربي تردّيًا وتراجعًا واضحين
■ ما هي، في رأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- من المهم للمترجم أن يكون على وعيٍ ودرايةٍ بطبيعة المجال المعرفي الذي يترجم عنه، وأن يعي السياق الثقافي الذي أُنتج فيه النّصُّ، وأيضًا السياق الثقافي المُستَقبل لهذا النص المُتَرجم. ولهذا تواجه المترجم عقبات عدة، منها: تعدّد معاني ودلالات المصطلحات بتعدّد السياقات التي ترد فيها. إضافة إلى ذلك، قد نجد صعوبة في توفير ترجمة دقيقة لمصطلح ما، أو عبارات بعينها في اللغة المُستَقبلة للنص المُتَرجم، وهنا يأتي دور المترجِم/المؤلّف الذي يُقدم تفسيرًا إضافيًا. من العقبات التي تقف في وجه المترجم أيضًا عدم وعيه بأنّ اللغة تتطوّر بشكل دائم ومستمر، ومن ثمَّ فهو في حاجة إلى تحديث معرفته ومواكبة التطوّرات في اللغة والثقافة للوصول إلى ترجمة دقيقة وعصريّة.
■ هناك قولُ أنّ المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- لا يمكن تعميم هذا القول، صحيح قد يحدث توتّر ما، في العلاقة بين المترجم والمُحرِّر في بعض الأحيان، لكن من وجهة نظري فإنَّ مرجع هذا التوتر هو رغبة كل واحد منهما بالقيام بدور الآخر ومسؤولياته. يتحدّد دور المُحرِّر ومسؤولياته في التأكّد من جودة النص على مستوى اللغة وسلاستها، والأسلوب، وغير ذلك من الأمور الفنية، وهو بأداء دوره هذا يكون داعمًا بشكل كبير للمترجم من جهة، وفي إخراج نصّ متكامل من جهتي الترجمة والتحرير. أمّا ما يخص أعمالي المُترجمة فهي تخضع للتحرير والإخراج، ولكن بطريقةٍ تعاونيّةٍ مُثمرة في كثير من الأحيان؛ لتوفّر عنصرًا مهمًّا وهو التفاهم، على أنَّ جودة النص المُتَرجم أهم من الانتصار للذات.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المُتَرجمة؟
- يتوقف نجاحُ أيّ عملٍ ولا سِيّما في الترجمة على علاقة التعاون التي تقوم بين المترجم والنّاشر، فما يهم الناشر الجيّد هو إنتاج محتوى يُلبّي توقعات القارئ. أما الناشر الذي يستعين بمترجمين لتلبية حاجات السوق من دون الالتفات إلى المحتوى المعرفي المُقدَّم فيكون هدفه التكسب والربح فحسب، ولا يحقق نجاحًا في الغالب، وأحمد الله أنَّني لم ولن أتعامل مع أي من هؤلاء الناشرين. وأتصور أنَّني محظوظٌ لأنَّ كل الناشرين الذين تعاملت معهم كانوا من الذين يسعون إلى نشر ترجمة متوافقة مع معايير الجودة والمهنيّة؛ كونها تحترم دور المُتَرجم وتقدّره.
الترجمة المؤسساتية أكثر دقّة وتنظيمًا وثراءً وتنوّعًا
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- تقع مسؤوليّة كبيرة على عاتق المترجم المحترف عندما يتعامل مع نصٍّ يحمل دلالات سياسية معينة، أو قضايا اجتماعيّة، وثقافيّة، ودينيّة مثيرة للجدل. فالمترجم المُلتزم بالأمانة المهنيّة ينبغي ألا يتدخّل في تعديل الأفكار السياسيّة والأيديولوجيّة أو حجبها؛ كونها تتعارض مع قناعاته الشخصيّة. ولا يعني هذا أن المترجم لا يقع في بعض الأحيان في معضلة أخلاقية عندما يحتوي النص على مواقف سياسية متطرفة أو آراء دينية مثيرة للجدل. وهنا يتعيّن على المترجم أن يلجأ إلى الهوامش والتعليقات كي يساعد القارئ على فهم السياق السياسي والديني الذي ينتمي إليه النص الأصلي، من دون التلاعب بالنص أو تحويره. ومن هنا تأتي أهمية حضور المسؤولية الأخلاقية في وعي المترجم إزاء النص الأصلي، والعقل المستقبل لهذا النص.
■ كيف هي علاقتك بالكاتب الذي تترجم له؟
- لا أنظر إلى الترجمة بوصفها نقلًا لنصٍّ ما من لغة إلى أخرى، بل هي بمثابة قراءة متأنية بهدف فهم نص كُتب بلغةٍ أخرى وفي سياقٍ آخر، وهذا الذي يجعل الترجمة إبداعًا، بمعنى أن يُبدع المترجم نصًّا جديدًا (مُترجَمًا) مفهومًا للثقافة المستقبلة له. عندما أبدأ في ترجمة كتاب ما، أُبادر بالتواصل مع المؤلّف، وأطلب منه مقدّمة خاصة للترجمة العربيّة، وهذا ما فعلته مع ترجمتي لكتاب فيلسوف العلم الإنكليزي ثيموثي وليامسون "فلسفة الفلسفة" (2016)، أيضًا ترجمتُ عدّة حوارات دارت بيني وبين فلاسفة علمٍ آخرين، أمثال نيكولاس ماكسويل، وسمير عكاشة، وهما من أكثر الشخصيات تأثيرًا في فلسفة العلم المعاصرة على مستوى العالم.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتبًا، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- الترجمة بوجه عام وسيلة من وسائل التواصل بين الثقافات، وليست النصوص المُترجمة مجرّد كلمات، أو عبارات تُنقل من لغة إلى أخرى، بل هي عبارة عن تجسير للأفكار والمفاهيم. ومن وجهة نظري، يكمن دور المترجم في تحقيق مهمتين أساسيتين: الأولى: هي فهم النص المُراد ترجمته فهمًا دقيقًا لمعرفة الخطاب الذي يوجه كاتب النص الأصلي، والثانية هي الترجمة الإبداعية، والتي هي عبارة عن صياغة النص المترجم صياغة لا تُحدث خللًا في النص الأصلي، وتكون متوافقة مع الثقافة المُستَقبلة لهذا النص. وهو ما أقوم به في ترجماتي كلّها، حيث أحرص على تواصل الأفكار وتسلسلها المنطقي، إضافة إلى إبراز الجانب الجمالي في النص وعمقه الفلسفي.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- وُضعت جوائز الترجمة العربية (كجائزة الشيخ حمد للترجمة، وجائزة الشيخ زايد للترجمة، وجائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة وغيرها) لغاية معينة، هي نقل المعرفة بين اللغات المختلفة وتجسير التفاهم والتواصل بين الثقافات، والمجتمعات، والشعوب. وعلى الرغم من وجاهة الرسالة ثمة تحديات تواجه جوائز الترجمة العربية منها: ضعف تأثيرها الفعلي على الحياة الثقافية، وهذا راجع في رأيي إلى تركيز بعض جوائز الترجمة العربية على مجال معرفي واحد، أو أكثر من دون الالتفات إلى مجالات معرفية أخرى، أيضًا من هذه التحديات نقص التمويل المالي، الأمر الذي يؤثر على استمرارية بعض الجوائز.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها في رأيك؟
- مع الأسف الشديد تعتمد الترجمة في عالمنا العربي على جهودٍ فرديّة مستقلّة عن المؤسسات الرسميّة الحكوميّة والخاصة. وهذا الذي يفسر لماذا تعاني الترجمة في واقعنا العربي تردّيًا وتراجعًا واضحين. ناهيك عن أن الترجمة الفردية تفتح بابًا كبيرًا نحو التحيّزات الأيديولوجية والسياسية عند اختيار النصوص المترجمة. لا ينكر إلا مُكابر أن الترجمة المؤسساتية تكون أكثر دقة وتنظيمًا، فضلًا عن تنوعها وثرائها، والأهم من ذلك هو أن الترجمة المؤسساتية تلبّي بشكل واضح الحاجات المجتمعية. ولو نظرنا في تاريخ العلم سوف نجد أن نهضة الأمم والحضارات، وتقدم الشعوب والمجتمعات اعتمد على الترجمة المؤسّساتية التي أسّست للحركات العلمية والمعرفية التي قادت مسيرة التغيير والتقدّم. ولنا في بيت الحكمة في بغداد مثالٌ واضحٌ للدور الذي قامت به الترجمة في نقل المعرفة اليونانية والفارسية والهندية إلى اللغة العربية.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها بصفتك مترجمًا، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
- لديّ استراتيجية خاصة عندما أشرع في ترجمة كتاب ما من الكتب المتخصّصة في مجالي المعرفي؛ وهي أن أقرأ أولًا عن موضوع الكتاب الذي أُترجمه، وثانيًا أن أقرأ عن مؤلّف الكتاب، ومنهجه في مقاربة موضوعاته، والسياق الذي يكتب عنه/وله. وثالثًا أن أقرأ الكتاب كلّه وأحدّد المصطلحات والعبارات التي تحتاج إلى التوقّف عندها، ولا سّيما "أفعال الكلام غير المباشرة" التي يستخدمها كاتب النص الأصلي؛ أي العبارات التي يقدّمها المؤلّف للتعبير عن مقصده، وأهدافه، والتي يوظّفها بطريقة ما للتعبير عن خطابه. وعندما أبدأ بالترجمة، من عاداتي أن أكتب المسوّدة الأولى بخط اليد في دفترٍ مُقسمٍ إلى قسمين: القسم العلوي من الصفحة يحتوي على الترجمة، والقسم السفلي يحتوي على تعليقات واقتراحات.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
- لم أندم قط على ترجمة نص من النصوص، فكلّ ترجمة هي عندي تجربة ثرية كونها تفتح لي آفاقًا معرفيّة جديدة وأبعادًا منهجيّة لم تكن موجودة قبل الشروع في ترجمة النص، ولا سيما عندما أُترجم نصوص الفيلسوف الكاميروني إشيل مبيمبي الذي يتناول قضايا فلسفية، وسياسية، ونفسية، شائكة. فأنا حقًّا أستمتع بترجمتي لنصوصه وتحليلاته التي تعمل على نزع الاستعمار من جذوره، وتتبع امتداداته لدى الحكومات والمؤسّسات المفتونة بالمركزية الغربية.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك مترجمًا؟
- كل أمنياتي أن نجد اليوم الذي تتحقق فيه أحلامنا في وجود مشروع مؤسساتي متكامل عن الترجمة، هدفه تحقيق نهضة على مستويات معرفية عدة: علمية، وفلسفية، وأدبية، وثقافية. وأن يسهم المترجمون المتخصصون والمحترفون في هذا المشروع لتحقيق هذا الهدف. وحلمي أن يكون الفكر العربي والإسلامي حاضرًا وبقوة في الفضاءات المعرفية، والعلمية، والفلسفية العالمية عن طريق الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى على تنوّعها واختلافها. وأن يتعامل العقل المُستَقبل للنصوص المترجمة تعاملًا نقديًّا لإنتاج نصوص موازية للنص المترجم نفسه.
بطاقة
أكاديمي ومترجم مصري من مواليد القاهرة. عمل أستاذًا زائرًا في كلية الفلسفة بـ"جامعة بريستول" في المملكة المتحدة، وأستاذًا للفلسفة والتفكير الناقد بكلية العلوم الإنسانية في "جامعة الإمارات العربية المتحدة"، ويعمل حاليًّا أستاذًا للفلسفة في قسم العلوم الإنسانية بكلية الآداب والعلوم في "جامعة قطر".
من ترجماته: "الفيزياء والفلسفة: ثورة في العلم الحديث" لــ فيرنر هايزنبرج (2014)، و"فلسفة الفلسفة" لـ ثيموثي وليامسون (2016)، و"أخلاق العمل المهني: كيف تكون عادلًا في عالم معقد ثقافيًّا" لــ ريتشارد روسن (2018)، و"مدخل إلى فلسفة العلوم الاجتماعية" لــ مارتن هوليس (2021)، و"نقد العقل الزنجي: الزنوجة كمشروع للخلاص الإفريقي" لــ إشيل مبيمبي (2023)، و"إبستيمولوجيات وفلسفات علم عالمية" لمجموعة مؤلفين (2023)، و"الخروج من الليل المظلم: مقالات في نزع الاستعمار من إفريقيا" لــ إشيل مبيمبي (2024).
مشاركة الخبر: مفكرة المترجم: مع خالد قطب على وسائل التواصل من نيوز فور مي