منها كورونا.. البرازيل أرض المآسي
ساو باولو / فيديريكو كورنالي / الأناضول
ـ البلاد تجاوزت 500 ألف وفاة جراء الفيروس، لكن الجوع والجدري قضيا على القدر ذاته أثناء الجفاف العظيم في القرن التاسع عشر
ـ قلة الأمطار في الإمبراطورية البرازيلية أدت إلى تشكيل مصاعب ومجاعات كثيرة
ـ المتوسط اليومي لوفيات كورونا يبلغ ألفا و661 حالة
تجاوزت البرازيل نصف مليون وفاة بسبب فيروس كورونا في 19 يونيو/ حزيران الماضي، وهو رقم قياسي يمثل أحد أكثر الفصول حزنا في تاريخ البلاد.
ورغم نسيان كثير من البرازيليين ذلك اليوم، فإن هناك مأساة أخرى أبادت ما لا يقل عن 500 ألف شخص في القرن التاسع عشر، أثرت بشكل أساسي على السكان في الشمال الشرقي للبلاد، الذي كان حينها جزءًا من الإمبراطورية البرازيلية التي استمرت حتى عام 1889.
تُعرف تلك الفترة المأساوية باسم "الجفاف الكبير" أو "الجفاف في شمال شرقي البرازيل".
ورغم تذكر كثيرين للإنفلونزا الإسبانية عام 1918 عند بدء انتشار جائحة كورونا بالعالم في مارس/ آذار 2020، فإن كارثة أخرى تسببت بمقتل 50 مليون شخص حول العالم بين عامي 1877 و1879، كان السبب الرئيسي للوفاة فيها هو الجوع.
أدت قلة الأمطار في الإمبراطورية البرازيلية إلى تشكيل مصاعب ومجاعات كثيرة، تضمنت أيضا وباء الجدري.
وخلال تلك الفترة، كانت مقاطعة سيارا الأكثر تضررا، ففي 1878 فقط، وهو العام الأسوأ للجفاف في تلك المنطقة، توفي أكثر من 119 ألف شخص بسبب انعدام الأمطار لمدة ثلاث سنوات، حيث عاش الناس بلا مزارع ولا مواسم للحصاد، وفقدت عائلات وقطعان كاملة من الحيوانات.
حينها، قرر الكثير ممن بقوا على قيد الحياة الانتقال إلى مناطق أخرى أقل تضررًا.
في غضون ثلاث سنوات، تحول عدد سكان المقاطعة من 900 ألف نسمة إلى 750 ألفًا فقط، وفق بيانات منشورة في كتاب للدكتور بارون دي ستودارت، بعنوان "علم المناخ والأوبئة والأمراض المزمنة في سيارا".
وارتبط هذا الجفاف والجفاف السابق واللاحق بظاهرة النينيو، التي تدخلت بشكل مباشر في مناخ المنطقة وأماكن أخرى من البلد.
** مقارنات منطقية
المأساة الوحيدة المماثلة التي تعرضت لها البرازيل منذ ذلك الحين هي جائحة كورونا، التي لا تزال تحصد الضحايا، إذ سجلت البلاد أكثر من 513 ألفا و474 وفاة. ورغم التطعيم السريع في معظم الولايات، فإن المعدل لم ينخفض.
وفي كلتا الحالتين، اختلفت مستويات الضحايا، فخلال فترة الجفاف العظيم، كان عدد سكان البرازيل أقل من عشرة ملايين نسمة، نصفهم يعيشون في الشمال الشرقي، مات منهم أكثر من 500 ألف بين عامي 1877 و1879 بنسبة أكثر من 5 بالمئة من السكان.
أما حاليًا، فالبرازيل التي تعد أكبر دولة في أمريكا اللاتينية بعدد سكان يبلغ 210 ملايين نسمة، توفي منهم جراء كورونا 500 ألف، بنسبة أقل من 0.3 بالمئة من عدد السكان.
ورغم اختلاف الأحداث كليا، فإن هناك أوجه تشابه بين تلك الأحداث التاريخية. ففي عام 1877 وأثناء الجائحة الحالية، كانت أسباب الوفاة تتمثل في خليط من ظاهرة طبيعية، وأزمة اقتصادية، وفشل في المساعدة الحكومية، ونزاعات سياسية؛ حدثت في القرن التاسع عشر وتستمر حتى اليوم.
الكاتب والصيدلي الشهير رودولفو تيوفيلو، كتب في سجل تاريخي عام 1878 أن "الطاعون والمجاعة يقتلان أكثر من 400 شخص يوميًا".
وقال تيوفيلو، مخاطبا الإمبراطور بيدرو الثاني: "في الصباح يجمعون الأطفال الموتى ويضعونهم في كيس ضخم ثم يغطونهم بمنديل ويرسلونهم إلى قبورهم".
وعلى العكس من ذلك، تسبب الجوع وانعدام الرؤية المستقبلية بـ "شتات" سكان الشمال الشرقي في جميع أنحاء الأراضي البرازيلية، إذ فر البعض إلى منطقة الأمازون، بينما سعى آخرون نحو حياة أفضل في الجنوب الشرقي، وتحديداً في ساو باولو وميناس جيرايس وريو دي جانيرو.
وقال دي ستودارت: "لقد ماتوا من الجوع والعطش، ولم يكن لديهم ما يأكلونه، ماتوا وسط شوارع المدن، وعلى الطرق السريعة في البلاد".
وأضاف: "بعد أكل الجذور البرية وبعض أنواع الصبار وأشجار النخيل وغيرها، بدأ الجياع تناول اللحوم الأكثر إثارة للاشمئزاز، مثل الكلاب والنسور والغربان، إضافة إلى بعض الزواحف".
بالإضافة إلى انتشار الجوع في ساحات فورتاليزا، العاصمة الحالية للولاية الشمالية الشرقية، حاول أولئك الذين غادروا الحقول الجافة التقدم نحو المقاطعات المجاورة التي كانت أقل تأثراً بالكارثة.
** "ما أشبه اليوم بالبارحة"
الحال في ذلك الوقت يشبه أزمات اللاجئين التي نراها اليوم، حيث يقول داين بورخيس، أستاذ التاريخ في جامعة شيكاغو، المتخصص في القرنين التاسع عشر والعشرين في أمريكا اللاتينية، "إن الدول المجاورة والعواصم الكبرى رفضت استقبال المسافرين اليائسين".
في المخيمات التي كانت تسودها حالة من الارتجال في العمل، كانت تستقبل مواكب اللاجئين، في طريقة لم يتم فيها احترام الحد الأدنى من شروط النظافة، وتسبب استخدام التجمعات غير المحمية بانتشار مرض الجدري الذي أدى إلى إحداث الخراب.
وقال جليودسون باسوس، أستاذ التاريخ في جامعة ولاية سيارا "UECE" إن "البيوت المؤقتة كانت مغطاة بأقمشة رقيقة، من دون حواجز بين بعضها، وإن تركز السكان المتأثرين بالجفاف في هذه المعسكرات وفر ظروفاً مثالية لوباء الجدري".
وأشار تيوفيلو، إلى أن "الجدري كان ينتشر كالنار في الهشيم. ففي نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 1878، لم يعد هناك أي أمل في إعادة إنشاء خدمة المستشفيات في المنطقة، بسبب أعداد المصابين الذين يصلون كل يوم"، إذ استقبلت مقبرة فوندا في 10 ديسمبر/ كانون الأول من العام ذاته، ألف جثة، "ما نشر الذعر بين السكان".
وبالمقارنة، يبلغ حاليا متوسط الوفيات اليومية بكورونا في البرازيل ألفا و661 حالة.
وكتب المؤرخ روجر كونيف في كتابه "ولادة صناعة الجفاف" أن تأثيرات الجفاف الطويل ستكون طفيفة على مجتمعات مثل المجتمع الحالي، الذي يملك وسائل نقل كافية، وصناعات غير زراعية، وموارد موزعة بشكل معقول.
وأضاف أنه إذا كان هذا المجتمع موجودًا في البرازيل عام 1877، فلن يكون من الضروري اتخاذ إجراءات طارئة، ولم يكن لهذه الأزمة أن تبدأ.
وتابع: "عام 1877، شكلت مجموعة من القوى المتآزرة مكاناً ربطت فيه بين مختلف الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والإنتاجية. وكانت نتيجة ذلك التآزر أسوأ بكثير مما لو تم عزل كل منها على حده، وهذا ما يحدث اليوم في البرازيل ودول أخرى في العالم مع جائحة كورونا".
ويقول بورخيس إن مقارنة الوباء الحالي بأزمة 1877-1879 يعد "خطأ كبيرا". لكن من الواضح أنه على عكس ما حدث في القرن التاسع عشر، فإن الدولة البرازيلية الحالية تمتلك، أو كانت تمتلك، الموارد لمواجهة الأزمة الصحية والاجتماعية التي سببها الوباء بشكل أفضل.
ويشير إلى أنه قبل عام، عندما كانت جميع البلدان تعمل على مواجهة فيروس كورونا، كان لدى الحكومة بقيادة الرئيس جاير بولسونارو القدرة على تخفيف الأزمة، "ولكنها لم تفعل ذلك باختيارها". وبالنظر إلى ذلك يبدو من الأصعب بكثير الحكم على أخطاء الحكومات الإمبريالية لعام 1877.
وفي السياق الفني، كانت أزمة الجفاف الكبير في الشمال الشرقي أحد المصادر الرئيسية لإلهام الكتاب البرازيليين، مثل غراسيليانو راموس وخوسيه لينز دو ريغو وخوسيه أميريكو دي ألميدا وغيرهم.
كما صوّر الرسام الشهير كانديدو بورتيناري، عائلة في حالة نزوح جماعي ضمن سلسلة تتضمن أيضا عملين آخرين يشيران إلى المأساة: وهما اللوحات التي تحمل اسم "الطفل الميت" و"الدفن في شبكة".
وفي مجال الموسيقى، انتشرت أغنية "الرحيل الحزين" للشاعر باتاتيفا دو أساري، بصوت المغني الشهير لويس قونزاقا.
مشاركة الخبر: منها كورونا.. البرازيل أرض المآسي على وسائل التواصل من نيوز فور مي