نتذكّر جوزيه ساراماغو

نتذكّر جوزيه ساراماغو

10 يناير 2024
جوزيه ساراماغو، لشبونة، 1994 (Getty)
+ الخط -

أتذكّر جوزيه ساراماغو، يومَ كنا بمعيّته نشاهد آثار التدمير، في أقصى المخيّم الغربي من مدينة خانيونس، على حدود منطقة المواصي، وأمامنا مباشرة، يربض الحاجز العسكري الضخم لمستوطنة "غوش قطيف"، المستوطنة الكبرى التي كانت تمتدّ آنذاك من حدود مصر جنوباً، إلى دير البلح شمالاً، وتفصل شاطئ البحر عن أهليه، وبها جامعات وحمّامات زراعة وأندية رياضة وكُنُس، ودور لهو، إلخ.

كانت انتفاضة 2000 في أوجها، وكان الكفاح المسلّح يتسارع، بمرور الوقت. كنتُ أتابع الرجل، وهو ينظر إلى يمينه حيث البيوت المهدّمة، وإلى يساره حيث جبروت الجيش في استعراض القوّة المُبتذل... ثم يُحدّق في فضاء كثبان الرمال الأصفر، الممتدّ أمامه، ويصفن. وحين عُدنا إلى غزّة، بعد انتظار ثلاث ساعات على "حاجز أبو هولي" سيِّئ الصيت، اتّصلت به صحافية من أوروبا (غالباً من لندن)، فقال كلمته بلُغته الأمّ، وبعد نَشْرها وإعادة ترجمتها في صُحف العدوّ، قرأتُها، وها أنا أتذكّرها الآن، بعد أن دخلت الإبادة الجماعية الصهيونية، شهرها الرابع.

قالها بوضوح: ما يُرتَكب في فلسطين من روح النازيّة

قال ساراماغو: "سيأتي يومٌ، ويُصنع تاريخ الشعب الفلسطيني، على شكل نُصب تذكاري هائل، لإهانة وتقتيل أمّة". وكان قبلها قد قال في رام الله: "إنّ فلسطين كلّها أوشفتز".

استفزّته إحدى الصحافيّات الماليّات (من المال)، مستنكرةً: "لا توجد هُنا أفران غاز!"، فردّ مُتهكّماً: "الفعل هو نفسه، حتى لو أخذنا بعين الاعتبار فروق الزمان والمكان. إنّ ما أقول له علاقةٌ بالفعل وليس بالاسم، وما يحدُث، هنا، يأتي من روحٍ مُطابِقة لتلك (النازية)، وهذا واضح جدّاً". وتابع قائلاً: "ما يحدث هنا هو جريمةٌ ضدّ الإنسانية، وإذا كانت كلمة 'أوشفيتس' تُثير غضبَك وغضب ساسة تل أبيب، فعليكم أن تختاروا كلمة أُخرى للتعبير عمّا رأيته. وعلى كلّ حال، لا يُوجد غير كلمة واحدة لِوَصف ما يحدث، ولن تكون أقلّ فظاعة من مصطلح 'الهولوكوست'".

حدَث هذا قبل اثنتين وعشرين سنة إلّا قليلاً، في آذار/ مارس 2002.

اجتمعنا معه في بيت المناضل حيدر عبد الشافي. حكى له ساراماغو عمّا رأى في خانيونس، وعلى الحاجز العسكري.
قال حيدر: إن شامير في الجولة الثالثة من مباحثات "مؤتمر مدريد" (1991)، عرَضَ عليه كلّ قطاع غزّة، بلا مستوطن واحد، فردّ عليه: "كلّا، أريد الضفّة الغربية بلا مستوطن واحد، قبل القطاع".

سمعتُ هذا الكلام بأُذني، وحينها سجّلتُه في دفتر الملاحظات فوراً، وسجّلتُ أيضاً ما لاحظته من استياء ساراماغو من أبي عمار، بعدّة تعقيبات وإيماءات، بعد توضيح حيدر.

لقد أضاع الرجل شعبه، وقضيّته، ببؤس الامتيازات أمام بأس العدوّ. ولمّا صحا من الغفلة، وقرّر القرار الصحّ، قتلوه. لكن، ها هو شعب الجبّارين يدفع، اليوم، باهظاً من دَين تلك الاتّفاقية قصيرة النظر، عديمة البصيرة. تحيّة إلى ذكرى لقاء في قلب المأساة، التي ما تزال تترى فصولاً، حدّ أن وصلنا الآن، فعلاً لا مجازاً، لما هو أسوأ من "أوشفتز".

"لا توجد هُنا أفران غاز!"، فردّ مُتهكّماً: الفعل هو نفسه

لقد حقّقت حكومة الكيان انتصاراً إباديّاً وتجاريّاً، سيجذب انتباه المُجرمين من تجّار التكنولوجيا العسكرية، إلى تجربة أداة تدمير جديدة وفادحة الأثر.

"حسبورة" القتل، كتجارة رائعة، محميّة بستار من الصمت والتواطُؤ. إنّها نظام الذكاء الاصطناعي، الذي يُطلَق عليه بالعبريّة لفظ "هاحسبورا" (الإنجيل). نظام شيطاني يستطيع اختيار مئات الأهداف كلّ يوم، لقصفها وتسويتها بالأرض، بينما كان "الموساد" و"الشين بيت"، معاً، قبل هذا الاختراع، بالكاد يصلان إلى خمسين هدفاً في السنة.

ووفقاً لدراسة أجرتها وكالة "أسوشييتد برس"، خلال حرب 2014، التي استمرّت واحداً وخمسين يوماً، استشهد فيها قرابة ثلاثة آلاف من المدنيّين، وتم ضرب ستة آلاف هدف، ممّا تسبّب في 89 بالمئة من الوفيّات بين المدنيّين، بينهم عشرون عائلة فقدت أكثر من عشرة أفراد. 

والآن، في الشهر الأوّل وحده، من حرب الإبادة، تم تدمير 15 ألف هدف، ووفقاً لـ"الأمم المتّحدة"، ينتمي حوالي خُمس الضحايا إلى ثلاثمئة واثنتي عَشْرة عائلة فقدت أكثر من عشرة من أفرادها. ولكنّ تحديد معدّل الوفيّات هذا يُولّد قدراً معيّناً من التردّد بين قوّات الاحتلال، التي تعرف أكثر من أيّ شخص آخر أنّها ترتكب جرائم حرب، وتقتل وفقاً لمعيار الثأر الإجرامي والكراهية البحتة: الفلسطيني يجب أن يموت. ولذلك، فإن نقل القرار إلى الآلة يلغي الفاعلية البشرية، وينزع الأثر الشخصي عن الصاروخ، ويسمح بتضاعُف عنف الهجوم. 

والحال، أنّ نتنياهو يستخدم ما يُمكن أن يكون أحد أسلحة المُستقبل الرئيسية، وتجّار الحرب من كلّ الألوان، لا غرو، مسرورون بهذا "الابتكار العبقري". ولقد قرأت مؤخّراً في صُحف اليسار اللاتيني، إنّ عنصرياً من جنوب إفريقيا يُدعى إيلون ماسك، عزّز في زيارته الأخيرة للكيان، من فعالية نظام الاستهداف الآلي هذا، نظير مكاسب جمّة. ذلك الأبيض الذي عاد قبل أيّام ليكون أغنى أغنياء الكوكب، بفضل هذه الإبادة، من ضمن أسباب أُخرى. وها هو يطمح، على الأرجح، إلى أن يُصبح قائد حركة عنصرية عالميّة، بعد لقائه بالنتن وتبنّيه آراء اليمين الفاشي، حول اللّاجئين، على شبكته الاجتماعية: "إكس" (تويتر سابقاً).

أيّ أفران غاز، إذاً، بجانب "حسبورة" شياطين الأرض والسماء، هؤلاء؟

آه يا جوزيه، يا أشرف أدباء عصرك، يا سيّد روائيِّي الكوكب، إبداعاً وتوهّجات ومواقف. أيها الرَّائي المتقدّم على الجميع.
أُحيِّي ذكراك يا ذا القلب الشيوعي الصَّلب، الذي حاول التنصّل من أقواله معظمُ من جاؤوا معه من الزملاء، أعضاء "البرلمان الدُّولي للكتّاب"، وكان من بينهم وولي سونيكا، وفينتشنزو كونسولو، وبريتن بريتنبخ، وكريستيان سلمون، وخوان غويتيسولو.

فلم يظهر في أوروبا حليفة العدوّ، واحدٌ، من قبلُ ولا من بعدُ، في قامة البرتغالي العظيم ـ وهو بالمناسبة كان صديقاً معروفاً في لشبونة للأمين العامّ الحالي لـ"الأمم المتّحدة"، أنطونيو غوتيريس (أنطونيو شاعر أيضاً)، ولعلّ الأخير أخذ قبساً من روح الأوّل.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية

المساهمون