زكي ناصيف في ثلاث أغنيات... أثر منك وصورة

زكي ناصيف في ثلاث أغنيات... أثر منك وصورة

17 مارس 2024
مُطلّاً من شرفة بيته في بيروت عام 2000 (رمزي حيدر/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- زكي ناصيف، المغني والملحن اللبناني، يُعرف بأغنيته "طلّوا حبابنا طلّو" التي تُجسّد الهوية اللبنانية وتُبرز موهبته الفريدة في تجسيد جمال لبنان الطبيعي والفلكلوري.
- أغنية "ما نسي العرزال" تُظهر عمق زكي ناصيف الفني والميتافيزيقي، مقدمةً تجربة موسيقية غنية بالألحان الشجية والإيقاعات المتنوعة، مُعززة بآلات مثل البيانو والغيتار الأكوستي.
- من خلال أعمال مثل "قوليلي ليش مبارح" و"غنّيلي بالليل الهادي"، يُظهر ناصيف قدرته على الابتكار والتجديد في الموسيقى، مُضيفًا بُعدًا جديدًا للموسيقى اللبنانية والعربية بتنوع الإيقاعات والتوزيعات الهارمونية.

تبقى أغنية "طلّوا حبابنا طلّو" أوّل ما يتبادر للأذن عند ذكر المغنّي والملحّن والباحث الرائد زكي ناصيف (1918 - 2004). كتب كلماتها ولحّنها وغنّاها بنفسه، ومن ثم تعاقب على أدائها كثيرون، لتبقى أشبه بطابعٍ سمعي، فلكلوري لبناني وفنّي ناصيفيّ، ما إن تُسمع عبر الأثير، حتى يتراءى لبنان ببحره وجبله، وناصيف ببراءة ضحكته وبياض شعره الكثّ الصقيل.

إلا أن ابن قرية مشغرة في قضاء البقاع الغربي، يخفي جواهر أخرى وضّاءة، استودعت مغاور النسيان، تحلّ اليوم مناسبةُ كشفها، والتاريخ يمرّ بذكرى رحيله العشرين. لعل أشدّها إشعاعاً وأعمقها تأثيراً، جوهرة "ما نسي العرزال"، كلمات إيميل رفّول وألحان زكي ناصيف. تتمتع الأغنية بسحرٍ يتجاوز الكتابة الغنائية إلى الإيحاءات الميتافيزيقية، وكأنها تدقّ باب الغيب، حاملةً بين أنغامها رسالة مستغلقة، منفتحة على مسارح التأمل ومطارح التأويل.

تستهل بمقدمة موسيقية مقتضبة، تُقدّم من خلالها أصوات الآلات المشاركة في التوزيع. تُسمَع آلة البيانو وهي تَعزف لحناً شجياً على مقام الكرد من دون انسجامات مصاحبة، وإنما بطباق نغمي تام عبر أبعاد صوتية ثمانية، تدعى علمياً "أوكتاڤ"، وتتألف من مجموع نغمتَي القرار وجوابها. ينضم صوت الغيتار الأكوستي، من دون أن يتمايز نغمياً، وإنما يكتسب اللحن بحضوره لبوساً لونياً.

أما شكل المقدمة، فيتكون من تقسيمها وفق ثلاثة مقاطع؛ يتألف الأول من سبع نغمات، يليها مقطع من ثماني نغمات، وأخير من ست نغمات. ترسم الحدود بين المقاطع فواصل خاطفة من الصمت، كما لو أن الصوت تجمّد برهةً في الهواء. يُنتج التقسيم بموجب عدد النغمات الرقم 786 القابل للأسطَرة؛ فمن اللافت الاعتقاد بأنه ذو دلالة قدسيّة، كونه يرمز إلى البسملة عند المسلمين، وإلى ثالوث الآلهة براهما وفيشنو وماهيشڤارا عند الهندوس.

ينبثق لحن الأغنية الرئيسي من رحم آخر نغمات المقدمة. يبرز الإيقاع الشبيه برقصة البوليرو ذات الأربع ضربات المنحدرة من شبه جزيرة الأندلس. يُخفي بين ضرباته ترنيمة تكاد في امتدادها اللحني ووثباتها النغمية أن تشارف على أن تتناهى ترتيلةً كنسيّة؛ إذ في كل مرّة يوحى للأذن بأن المذهب على وشك الانتهاء، تتفرع منه استطالة ثيماتية، تقود اللحن إلى عتبة نغمية جديدة. يزيد من أثرها العاطفي مصاحَبة هارمونية صاغها ناصيف كأغصان شجر، يحطّ عليها المغنى كعصفور، ثم يأتي صوت الأكورديون بقيمة تشكيلية مُضافة، سواءً عبر ملء الفراغات بين المذاهب بتزويقات موسيقية، أو إعادة عرض لحن المذهب من خلال العزف المنفرد.

لئن يكمن سحر "ما نسي العرزال" في التشكيل البسيط المُقتضب والعذوبة اللحنية الأخّاذة، فإن عصا الساحر تبقى صوت زكي ناصيف السيّال الوثّاب والمؤنِس بانكساراته الرشيقة البرّاقة، سواءً لدى ارتقائه باللحن أو عند الانخفاض به، إذ لا يعيب صوته ضعفه وافتقاره، بل يُمكّنه ويُغنيه، ما يُضفي على غنائه طابعاً وجدانياً فريداً وأجواء صوفية تختطف أذن المستمع، تأخذه إلى عمقٍ سحيق مستور.

كسابقتها، تبدأ أغنية "قوليلي ليش مبارح" بمقدمة آليّة، إنما أكثر تقانةً وانشغالاً بأسئلة الحداثة والتراث، سواء على مستوى التصميم الموسيقي، أم لجهة المعالجة الموسيقية. تُسمع أسرة الوتريات مهرمنةً، أي مصاغة عبر أصوات مختلفة وفقاً لانسجامات هارمونية في ما بينها. توضع في مقابلة مع آلة الناي المنفرد، لا يجمع بينهما سوى الأداء بأسلوب التغريد (Trill) الذي يُعتبر محاكاةً لصوت العصافير. يحمل الحوارية إيقاع الواحدة الصغيرة، الثنائي بـ دُمٍّ وتكّتين، وتنضم آلة الكلارينيت النفخية، فتُحدِث أشبه بقنطرة لونية تقرّب صوت النفخ بالناي من سحب القوس على أوتار الكمانات.


 
بعبارة "قوليلي"، يدخل صوت زكي ناصيف من على مستوى منخفض مهيّئاً الأذن لاستقبال مقام الحجاز، إلا أنه ينتقل بغتة عن سبق عمد وبقصد إحداث صدمة شعورية إلى أجواء العجم، المقابل الشرقي للسلم الغربي المعدل الكبير، الماجور. بالتالي، يفسح المجال أمام إمكانية توزيع اللحن بأسلوب كلاسيكي غربي حرٍّ من البُعيدات الشرقية. تزركش آلة الناي الفراغات الصوتية بقفزات واسعة كضربات ريشة على قماشة لوحة بيضاء. بمصاحبة الوتريات، يعمل كل من آلة البيانو والأكورديون على تشييد جسورٍ تربط الكوبليهات المتتالية. يضطّلع الناي على مدار الأغنية بمهمة تأكيد الهوية المحلية بصبغة فولكلورية ريفية رقيقة.

في الأغنية التالية، يفتتح الأُكورديون المنفرد "غنّيلي بالليل الهادي" من ألبوم "مهما تجرح"، إصدار سنة 1961، على إيقاع الرومبا الرباعي ذي الشخصية الأميركية اللاتينية الدافئة، والشاعرية التي تنسجم مع النفحة الغزلية الرقيقة التي تتميّز بها الكلمات. يُبقي ناصيف على صوته رخيماً رصيناً وعلى مستوى منخفض، إلى أن يبلغ البيت الرابع. عندها، وبتمهيد من الأكورديون، يُطلق حنجرته لتُغنّي لفظ "مين" بأسلوب منفرد، يحاكي غناء الفلامنكو الأندلسي، وإن ظلّ محافظاً على دِعة ورقّة تُميّز الأسلوب الناصيفيّ.

يعتمد زكي ناصيف في تلحينه الأغنية على الموسيقى الآلية، وذلك من أجل تكرار لحن المذهب، مسحوباً منه الغناء، ما يؤدي بالأذن إلى أن تألفه وتعتاد عليه. سواءً أكانت آلة البيانو أم الأكورديون، يعمد ناصيف إلى دعم الجملة الموسيقية بخطٍ مرسوم من سلاسل انسجامات هارمونية، ينحدر بنزولٍ سلِسٍ على منحدر الجملة اللحنية.

لأجل الهرمنة، يتّبع تتابع الأبعاد الكروماتية، أي المتلاصقة، وتلك تقنية، تذكّر بالمؤلف الهنغاري بيلا بارتوك أول القرن العشرين، في خضمّ ما يُسمّى حقبة "الموسيقى القومية"، التي شاعت خصوصاً لدى الشعوب التي تكوّنت لديها الثقافة السمعية بموجب الموسيقى المقامية، كغرب آسيا والأناضول وشرق أوروبا. أما ناصيف، فقد أبقى تلك السلاسل، أو الأكوردات، على مستوى صوتيّ خافتٍ، إذ تكاد لا تُسمع، اكتفاءً بتحديد خطوط الألحان، بنيّة إبرازها، كما تُظهر الظلال التضاريس المرسومة في لوحة.

دلالات

المساهمون